أما الأسباب (الحقيقية) لمعتقداتنا وآرائنا، فهي في الحقيقة خافية عنا، كما خافية عن غيرنا، والذي يحدث في واقع الأمر هو أننا نشب على الآراء التي وجدنا مجتمعنا يأخذ بها. ونحن نتشرب هذه الآراء من البيئة التي نعيش فيها عن طريق لا شعوري؛ فالجماعة التي نحيا بين ظهرانَيْها هي التي تهمس في آذاننا دائماً أبداً بهذه الآراء والمعتقدات. ولما كانت هذه الآراء أو الأحكام وليدة الإيحاء (لا التفكير المنطقي)، فإنها تبدو واضحة تمام الوضوح، حتى أن أي ظل من الشك يلقي حولها، يثير في الناس الدهشة والاستغراب. والواقع أننا إذا حاولنا أن نناقش رأياً من الآراء فوجدنا أنفسنا بازاء فكرة تبدو واضحة بينه حتى أن مجرد التعرض لمناقشتها يعتبر في نظر الناس عملاً غير مرغوب فيه، فإن هذا الرأي لا بد أن يكون عبارة عن فكرة تتنافى مع العقل، وبالتالي لا تستند إلى حقيقة ثابتة بينة.
أما الآراء التي هي وليدة الخبرة والتجربة، أو التفكير الصائب النزيه، فهي - على العكس من ذلك - لا تتصف بهذا (اليقين الأوَّلي) وفي هذا الصدد يروى روبنسون أنه حينما كان حدثا صغير السن، سمع جماعة من الناس يتناقشون في مسألة خلود النفس، فاستثاره الشك الذي أظهره بعضهم حول هذه الحقيقة. وهو يردف ذلك بقوله إنه حينما يعود اليوم ببصره إلى الوراء، فإنه يرى بوضوح أنه لم يكن معنياً بذلك الموضوع في ذلك الحين، بل أنه يقيناً لم يكن دليلاً واحداً صحيحاً يثبت به هذا المعتقد الذي يتعصب له. ولكن على الرغم من أنه لم يكن معنياً بالموضوع من قبل، وعلى الرغم من أنه لم يكن له عهد بالبحث في هذه المسائل، فانه مع ذلك لم يتردد في أن يظهر غضبه واستياءه حينما وجد آراءه ومعتقداته توضع موضع البحث والمناقشة.
وهذا التأييد التلقائي لآرائنا السابقة وأفكارنا المبتسرة؛ أو بعبارة أخرى هذا البحث عن الأدلة (المعقولة) التي تبر معتقداتنا المألوفة وآراءنا التقليدية، هو ما يُعرف عند علماء النفس المحدثين باسم (التبرير الجدلي) وهو بلا ريب ليس سوى أسم جديد لشيء قديم جداً. وهذه الأدلة (المعقولة) هي بطبيعة الحال وليدة التفضيل الشخصي والأحكام السابقة، فهي إذن لا تمت بصلة إلى الرغبة الصادقة في البحث عن معرفة جديدة أو في التسليم بحقائق جديدة