تاريخهم، ونقلوا به من أمة بدوية إلى أمة حضرية، وشاهدوا فيه من آثار المماليك المفتوحة ما لم يشاهدوه في باديتهم، وقد وجههم الإسلام إلى النظر في الطبيعة فلم يتوجهوا، ولم يجددوا في الشعر ما يلائم ذلك التجديد الديني، وقد قامت في ذلك الدور حركة للأحياء في رجز العجاج وغيره من الرجاز، وفي قصيد الراعي وتلميذه الرمة.
ثم يأتي بعد ذلك الدور الرابع، وهو دور الانتقال في شعر أبي نواس وأبي الرومي والبحتري وابن المعتز وقد امتاز هذا الدور بالمنازعات التي قامت فيه بين القديم والجديد، وثورة أبي نواس على الجمود في الشعر على وصف الطلول، والوقوف على الدمن، وما إلى ذلك مما لا يتأثر به الشاعر في حاضره، ولا يحيط به بيئته، وكان لذلك أثره فيما أخذ به هو وغيره من وصف مشاهد الحضارة العباسية، في قصورها ومجالس لهوها، وما إلى ذلك مما جد فيها، ولكن الشعراء كانوا يترددون في ذلك بين القديم والجديد، ولم يمكنهم أن يتخلصوا فيه كل التخلص من التأثر بالقدماء.
ويأتي بعد ذلك الدور الخامس، وهو دور النهضة، وقد انتهى القرن الثالث الهجري بغلبة الجديد، فنهض شعر الطبيعة إلى أقصى ما وصل إليه الأدب العربي، وصار له في كل إقليم طابع يمتاز به، وكان أرقى ما وصل إليه في بلاد الأندلس في شعر ابن خفاجة وغيره.
وقد آثرنا أن نلم التقسيم الذي يدل على مبلغ دقة المؤلف وتمكنه من موضوعه، لندل به على طريقة دراسته في كتاب تبلغ صفحاته سبع عشرة وثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط، فهي دراسة دقيقة جامعة لهذا الشعر في عهوده المختلفة، وعرض حسن لنماذجه فيها، وتحليل وشرح يدل على قوة إدراك، وحسن فهم، وموازنات بين الشعراء في هذا الباب تدل على مبلغ تفاوتهم فيه، وتضع كل واحد منهم في درجته اللائقة به، ونقد بصير بمواضع النقد، وتوجيه حسن لمن يأخذ من الشعراء في هذا الباب.
ثم ماذا بعد هذا كله في ذلك الكتاب النفيس؟ هناك دراسة أيضاً لشعر الطبيعة عند الغربيين، وموازنات بينه وبين شعر الطبيعة في الأدب العربي وحسن توجيه أيضاً إلى ما وصل إليه شعراء الغربيين في هذا الباب، لأنهم لم يقتصروا فيه على وصف مظاهر الطبيعة كما اقتصر شعراؤنا، بل اتسع الأفق عندهم في نظرتهم إلى الطبيعة، واتخاذها