هنا يطمئن قلبي؛ هنا ترتاح نفسي؛ هنا تلفظ ضوضاء العالم البعيد أنفاسها الأخيرة كما يلفظ الصوت البعيد أنفاسه حين تبعد به الشقة قبل أن يصل مع النسيم إلى الأذن الحائرة.
من هنا، ومن خلال هذه الغيوم الصافية، أرى ماضي حياتي يختفي في ظلام دامس، تاركا لنفسي ذكريات حية لحبي، كما تترك اليقظة في نفس المستيقظ صور خيالات جميلة لحلم لذيذ قد استفاق منه.
يا نفسي! خذي حظك من الراحة في هذا المنزل الأخير كما يأخذ المسافر الطافح قلبه بالامال، حظه من الراحة، قبل أن يدخل أبواب المدينة، يستنشق هنيهة نسيم المساء المعطر.
ولننفض نعالنا كما يفعل هذا المسافر، لأننا لن نمر ثانية في هذه الطريق التي اجتزناها مملوءة بالغبار، ولنتذوق مثله أيضاً، في آخر مرحلة من طريقنا، هذا الهدوء الذي يبشرنا بضجعتنا الأبدية.
أيها الإنسان! إن أيامك المعدودة، التي تشبه في حلكتها وقصرها أيام الخريف، تنحدر بك كما ينحدر الظل على جوانب الهضاب. فالصداقة تخونك، والرحمة تعرض عنك، إلى أن تتركاك في طريق القبر وحيدا.
ولكن الطبيعة هنا تدعوك إليها لتبثك أشواقها، فارتم في أحضانها.
عندما يقلب لك كل شيء ظهر المجن، عندما يخونك كل شيء ويعرض عنك، ترى الطبيعة على حالها المعهودة. فالشمس نفسها تشرق طيلة أيام حياتك.
أن الطبيعة لم تزل كما كانت عليه بالأمس، ترشدنا تارة بنور حقيقتها، وتظللنا أخرى. فلا تأسف أيها الإنسان لكل ما تضيعه من متاع الحياة الدنيا. وتعال تعبد ذلك الصدى وألحان تلك الموسيقى العلوية كما كان يتعبدهما (فيثاغورس) من قبلك.
دع الطرف يناج الغزالة في سمائها نهارا، والأشباح في محرابها ليلا؛ واسبح مع الغيوم على بساط الريح؛ واخترق غابات الوادي الظليلة مع أشعة ذلك الكوكب الخفي.
إن الله خصك أيها الإنسان بالعقل والفطنة لكي تتحقق بهما وجوده. فاستجله في صحيفة الطبيعة، فإن في سكونها وهدوئها صوتا يهتف باسمه.