قرب صورة العذراء، وكان الرسم يمثلها في موقف الصلاة وعلى وجهها بادية سمات الكابة والخفر والخشوع دلالة على احتفاظها بعفافها.
وقد كان نزلي فوق هذا في طليعة المواطنين الذين أسسوا الجمهورية؛ فلم يخالف يوماً شيئاً مما سن في البلاد من شرائع ووضع من نظم، ورسم من المراسيم، وفرض من قوانين. ولم يعن قط بشؤون البؤساء والمعوزين، ولم يتدخل في أمر من قضى عليهم رجال الحل والعقد بالعقاب أو التغريم أو الأبعاد، بحيث لم يفقد في أعين القضاة ورجال السلطة شيئاً مما أحرزه لديهم من مكانة ومقام، بوافر ثروته وحسن سيره وانقياده.
ففي ذات مساء من أيام الشتاء عاد إلى قصره متأخراً على غير عادته، فوجد نفراً من المتسولين نصف العراة محتشدين أمام الحديقة. فلما أبصروه احتاطوا به وبسطوا له أيديهم مستجدين. فزجرهم بعنف وانهال عليهم بالسب والشتم وأقصاهم عنه بفظ الكلام وقارسه فتفرقوا حلقات واجمين جزعين - غير أن الجوع وقد اخذ مأخذه منهم حملهم على لم شعثهم وإعادة الكرة على نزلي فرجعوا كأنهم مراجل تغلي واحتاطوا به ثانية بشكل نصف دائرة وطفقوا يضجون ويولولون ويلغطون ويصيحون صيحات تماثل عواء الذئاب الضارية واخذوا يسألونه بأصوات ملؤها التهدج والتهديد خبزاً يأكلونه فهم بالانحناء على الأرض ليلتقط حجارة يرشقهم بها، ولكنه ابصر أحد غلمانه آتيا وعلى رأسه طبق عليه أرغفة من الخبز الأسود جاء بها ليفرقها على المشتغلين في اصطبلات القصر ومطبخه وحديقته فأومأ إليه كي يدنو منه، ولما اقترب شرع نزلي يلقي بملء يديه على أولئك الجياع ذلك الخبز الأسود فهاجوا وماجوا وهجموا في هرج ومرج يدفع بعضهم بعضاً متزاحمين متسابقين على تلقف تلك الأرغفة والتقاطها، ولما خف صخبهم وسكن لغطهم وهدأت ثورتهم وحنقهم دخل نزلي في داره ونام، وفيما هو مستغرق في رقاده أصيب بضربة مخية أودت بحياته وكان موته سريعاً جداً بحيث خيل إليه انه لم يزل بعد على قيد الحياة. وبعد هنيهة شعر انه في مكان مقفر مظلم ثم ابصر ميكائيل رئيس الملائكة أتيا إليه قدماً وهو يحمل قسطاساً ذا كفتين، فلما أدركه الملك اخذ يضع في إحدى الكفتين ما كان في حيازة نزلي من حلى أرامل وأموال أيتام وقطع ذهبية وحجارة كريمة ونقود مختلفة كان أحرزها بالغش والربا الفاحش - ففهم نزلي انه قبض وانه إنما جيء به إلى ذلك المكان ليحاسب