للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والتسويف والتأجيل؟ أن الحق اليوم لا يكاد يصل إليه صاحبه حتى تتقطع دونه الأعمار، وما أجدى حق يأتي من دونه المدى الأطول؟ لقد كانت بيننا وبين آل الصلاحي في دمشق دعوى على أرض لبثت في المحاكم ثلاثا وثمانين وخمسة أشهر. . . أقامها على جدهم جدي الذي قدم من (طنطا)، وانقرض منا ومنهم بطنان والدعوة قائمة، وقد خسرناها أخيراً. وصدقوني إذا قلت لكم أني لم ادر إلى الآن مع من منا الحق، ولم أفهمها. وكيف ادرس ملفا فيه من الأوراق المكتوبة بالعربية والتركية والفرنسية أكثر مما في تاريخ بن جرير الطبري؟ أما قضاؤنا، فكان يبت في القضية مهما عظمت في جلسة أو جلستين، لا يعرف هذا التطويل وهذا التأجيل. ولقد حكم قاضي مصر محمد بن أبي الليث في دعوى بني عبد الحكم المشهورة بمبلغ مليون وأربعمائة وأربعة آلاف دينار ذهبي في جلسة واحدة يوم السبت ٨ جمادى الأولى سنة ٢٣٧هـ، ورضى بحكمه الفريقان. روى ذلك الكندي.

وهل مثل قضاتنا في التنزه عن كل ما يقدح بحشمة القاضي ووقاره، وفي التحرز من أدنى التهم، وأضعف الميل؟ وهل للقضاة في أمة اليوم مثل ما كان لقضاتنا من رفيع الشان وعظيم القدر؟

يا أيها السادة! اذهبوا إلى سوق الكتب فاطلبوا كتاب (الخراج) الذي ألفه القاضي الإمام أبو يوسف للرشيد واقرؤوا مقدمته، واذكروا عظمة الرشيد وكبر نفسه وجلال ملكه، ثم انبشوا تواريخ الأمم الماضية وأخبار الأمم الحاضرة، وانظروا. . . هل تجدون قاضيا، أو عالما، يقول لملك دون الرشيد بمائة مرة مثل هذا الكلام أو قريبا منه: (الله الله، أن البقاء قليل، والخطب خطير، والدنيا هالكة وهالك من فيها، والآخرة هي دار القرار، فلا تلق الله غدا وأنت سالك سبيل المعتدين، فإن ديان يوم الدين إنما يدين العباد بأعمالهم ولا يدينهم بمنازلهم، وقد حذرك الله فأحذر، فانك لم تخلق عبثا، ولن تترك سدى، وإن الله سائلك عما أنت فيه، وعما عملت به، فأعدو يا أمير المؤمنين للمسألة جوابها، فإن ما عملت قد أثبت فهو عليك غدا يقرأ، فاذكر كشف قناعك فيما بينك وبين الله في مجمع الأشهاد)

أيها السادة، هذا بعض ما خاطب به أبو يوسف القاضي هارون الرشيد أمير المؤمنين والحاكم المطلق في ست عشرة حكومة من حكومات هذه الأيام!

علي الطنطاوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>