ومجموع ما خلفه لنا هؤلاء وإن يكن يحوي الكثير من الحقائق، فإن الطابع الأدبي والشعري غالب عليه
وفي القرون المسيحية الأولى كان التاريخ مقصورا على مجرد ذكر الوقائع والأخبار المسيحية المختلفة، وحتى القرن الثالث عشر الميلادي كان التاريخ في معظمه وقائع وأخبارا دينية، وكان غرض المدرسين أن يبينوا كيف أن الأحداث التاريخية تتابع في نظام إلهي؛ فالحياة الإنسانية سلسلة عجائب ومعجزات إلهية، هي تجليات لله في خيرها، وتجليات للشيطان في شرها.
والنهضة الأدبية التي ظهرت في القرن الثالث عشر قادت إلى الكشف عن كثير من النصوص المفقودة، وأمدت التاريخ بعناصر جديدة، فظهرت لأول مرة مؤلفات تاريخية منظمة مثل مؤلفات مكيافيلي
وفي القرن السادس عشر أصبح المؤرخ بعد حركة الاكتشافات الكبيرة، على علم ببلاد جديدة وشعوب جديدة؛ فاتسعت بذلك معلوماته واتجه إلى البحث في فروع جديدة من أفرع التاريخ كاللغة والديانات وغيرها. . .
وبعد الثورة الفرنسية ظهرت القوميات فكانت دافعا كبيرا للبحث عن منابع التاريخ القومي لرغبة الناس في التغني بماضي أوطانهم وتفوق عناصرهم، فظهرت الكتب التاريخية حافلة بالوقائع الحربية وتراجم مشاهير الرجال. ولا يزال التاريخ يتقدم حتى بلغ المرحلة التجريبية؛ وظهرت الخطوط الأولى لهذا التقدم الهائل في مؤلفات بارتسولدنييور الذي يعد واضع منهج التاريخ العلمي، ومن عهده أصبح التاريخ يستند إلى مناهج شبيهة بمناهج العلوم الطبيعية، وأصبح المؤرخ يتخذ من نفسه موقف الباحث العلمي الذي يبحث عن الوقائع مجرداً عن كل غاية، وانحصر عمل المؤرخين في هذا الدور على جمع الوقائع والأخبار وتحديدها تحديداً علمياً وتنسيقها في مجموعات منظمة؛ ولم يكن المؤرخ يرمي إلى تفسير الوقائع أو بيان الرابطة العلية التي ترتبط بها الأحداث التاريخية لرغبته في الابتعاد كل البعد عن النزعة الذاتية
ولكن هل من الممكن أن تكون هذه المجموعة الكبيرة من الوقائع المحددة تحديداً علمياً دقيقاً، هي كل عمل المؤرخ ينتهي عندها نشاطه؟ لابد للمؤرخ من أن يخطو خطوة أخرى