وبدهي أن ثورة التجديد في الشعر الحجازي لا يمكن أن توجه الشعراء جميعا إلى وجهة واحدة؛ إذ لابد له من زمن طويل يشتط فيه المجددون ويسرفون في التجديد، ويشعر القدامى بتأخرهم فيقتربون منهم شيئاً فشيئًا، ويعود المسرفون فيهدئون من ثورتهم ليلتقوا بإخوانهم القدامى الذين تخلفوا عنهم وحينئذ يجتمع في الشعر محاسن الطريقتين، ويستقر في طريق له معروفة مرسومة لا تكون عرضة لزعازع التغيير والتبديل الفجائيين.
حدث هذا الصراع في الحجاز منذ أن قام الشعراء بنهضتهم الحديثة؛ فقد جمل المجددون على الجمود والخمول وتناولوا عشاق القديم بالنقد اللاذع فأثر فيهم هذا النقد، ولم يعد الآن في الحجاز من يطرب للتشطير والتخميس أو يهتز لألوان البديع، واتجهوا جميعا إلى أغراض الحياة يبسطونها في أشعارهم ويجلونها في بيانهم وإن كانت ظاهرة الاختلاف لا تزال قائمة؛ فشعراء الحجاز الآن طائفتان: طائفة مجددة ولكنها متئدة متمهلة تعنى بالديباجة القوية وتبقي على كثير من الأغراض القديمة. وطائفة متوثبة مسرفة في التجديد قد استطاعت أن تقطع صلتها بالقديم إلا في الألفاظ والتراكيب.
ولعل الحجازيين عندما انفسح أمامهم طريق الرقي الأدبي وجدوا أنفسهم متأخرين؛ وجدوا مصر والشام ثم العراق قد قطعت في ميدان التقدم شوطا بعيد المدى فهالهم الأمر وأرادوا اللحاق بهم؛ فلم يكن هناك بد من أن يسرعوا الخطا ويغذوا السير في حركة الواثب المتحفز الذي لا يبقى ولا يذر. فماذا وجدوا أمامهم؟
رأوا دواوين الشعر القديم قد ملأت الأسواق ورأوا أدباء مصر والشام قد أنتجوا المعجب في الأدب. ورأوا غير هاتين الناحيتين أدبا آخر هو الأدب العربي في أمريكا، وهو أحدث هذه الآداب وأقربها إلى الأدب الأجنبي.
وجدوا كل هذا فمال الكثيرون إلى الآداب الحديثة وبخاصة أدب المهجر وتعشقوها وجاهدوا في تقليدها كأنهم رأوا فيها الخلاص من الجمود والتأخر؛ فاستطاعوا في زمن وجيز أن يباعدوا بين منهاجهم ومنهاج من سبقوهم؛ حتى ليخيل إليك عدم الارتباط والصلة بين الأدبيين.
وأما الآخرون - وهم أقلية - فقد آثروا الاعتدال والتمهل والتفتوا إلى الأدب القوي القديم يقرءونه ويحاكونه في بلاغته ورصانته، ومالوا إلى الأدبيين المصري والشامي يتهجون