معارضاً لطبيعة الحياة - كما توهم بعض الفلاسفة - وإنما هو على العكس من ذلك موافق للطبيعة، بل شرط ضروري للحياة المليئة الخصبة - والواقع أن محبة الآخرين لا تفترق أبداً عن الحياة الحافلة الفائضة، لأن مثل هذه الحياة مثل الأمومة الواسعة التي لا تستطيع أن تقف عند حدود الأسرة. (إن ثدي الأم (كما يقول جويو) في حاجة إلى الشفاه النهمة التي تلتهمه وترتشف رحيقه الثر؛ كذلك قلب الكائن الإنساني حقاً، هو في حاجة أيضاً إلى أن يرتمي الآخرون في أحضانه، لكي يجدوا فيه الغوث والنجدة. بل إن في قلب المحسن نزوعا باطناً، وميلا دفيناً، نحو أولئك الذين يتجرعون مرارة الألم).
أليست الحياة إذن إيثاراً وتضحية وبذلا للذات؟ أليس جويو على حق حين يقول:(لي يدان: واحدة أصافح بها من أسير معه في طريق الحياة، والأخرى انهض بها من يعثر. وفي استطاعتي أيضاً أن أمد كلتا يدي لهؤلاء.)؟ أليست الحياة العليا إنما هي تلك التي لا تألو جهداً في أن تفيض على الآخرين، كما سبق لنا القول؟
إن اللذات الدنيا هي وحدها التي تتسم بطابع الأنانية. فحينما لا تكون هناك غير قطعة واحدة من الحلوى، نجد أن الطفل يريد أن يستأثر بها. أما اللذات العليا فإنها بطبيعتها لذات ليس فيها من الأنانية شيء.
قد يشهر الإنسان بلذة فنية، فهنا نراه لا يريد أن يستمتع بها بمفرده، بل تريد أن يشعر الآخرين أنه يستمتع ويتذوق فعند اللذة الفنية يريد المرء دائماً أن يعرف الآخرون أنه حي، وأنه يشعر، أو أنه يقاسي أو أنه يحب. أنه يريد أن يمزق نقاب الفردية.
والفنان الحقيقي لا يريد أن يكون بمفرده عند مشاهدته لشيء جميل أو عند اكتشافه لشيء عليه مسحة الصدق، أو عند شعوره بعاطفة نبيلة.
أليس الفن للحياة وبالحياة فكيف لا يظهر فيه طابع الحياة مع أنه هو المعني الباطن للحياة؟ ألم يقل جويو أنني حينما أبصر الجمال، فهناك أود أن أكون اثنين (لا واحداً)؟ إذن فكيف لا يكون الفن في جوهرة مشاركة وتوافقاً؟
إن الحياة الخصبة الحافلة هي أولا وبالذات حياة اجتماعية؛ فأينما فتشت عن الحياة، وجدت الإيثار والتضحية وبذل الذات والأنانية هي سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب وامتلاء؛ لذلك كانت الحياة الفائضة الطافحة، هي تلك التي تمثل الوجود الحقيقي.