(صفحة محتارة من المخطوط الجحوي النفيس الذي عثرت عليه، ولعله مكتوب بخط صاحبه (أبي الغصن عبد الله دجين بن ثابت) الملقب بجحا أو بخط أحد معاصريه:
(. . . اعتذر (دجين بن ثابت) لضيفه (أبي شعشع) عن حقارة البيت الذي ضيفه فيه، ولكن (أبا شعشع) قال له: (إن القليل الذي يبذله الفقير خير من الكثير الذي يبذله الغني. لأن الأول يجود بما يحتاج إليه ولا يستغني عنه، على حين يجود الآخر بما لا يحس فقدانه، ولا يبالي ضياعه).
وما زال (دجين) وصاحبه يسمران حتى قضيا من الليل أكثره، ثم بسط النوم على المدينة جناحيه الكبيرين، فاستسلما للرقاد هانئين، وقد أنستهما لذة الكرى ما مر بهما من أحداث الزمن ومصائبه، ومدهشات الدهر وعجائبه.
وأعدت (ربابة) حزماً من قش الذرة لينام عليها صاحب الدار وضيفه الذي أشتعل رأسه شيباً فأكسبه ذلك مهابة وجلالا. ثم أقامت لولديها (جحوان) و (جحية) أرجوحة جيء بها من بلاد الهند، كانا يستعملانها في أسفارهما ورحلاتهما، فأسرع الطفلان إليهما ليناما فيها.
ولو رأيتهما لخيل إليك لوفرة نشاطهما وصغر جسميهما، أنك ترى قردين صغيرين وقد اشتبكت أذرعهما ليندمجا في الأرجوحة الصغيرة حتى تتسع لنومهما.
واستأذنت (زبيدة) جارتها في الذهاب إلى بيتها. ثم جلست (ربابة) على خشبة صغيرة أمام الأرجوحة وظلت تهزها في رفق وانتظام، وتغني طفليها بصوت يفيض حناناً وحباً:
ناما - حبيبيَّ - ناما ... واستقبلا الأحلاما
نورا وحُسنْا ورَوْضا ... مُعَطَّراً بساماً
تخايَلَ الوردُ عُجْباً ... وفتَّح الأكماما
والطير أنشد لحناً ... فأبدع الأنْغاما
ناما هنيئاً، وقوما ... معي إذا الطير قاما
عيشا بأسعد عيش ... رَغادَةً وسلاما
سنين عشراً، وزيدا ... عاما، وتسعين عاماً
ونصف عام، وشهراً ... ونصف شهر تماما
وبعده أُسبوع ... نزيده أياماً