للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كان من قضاة مصر في أوائل القرن الثالث الهجري، الحارث بن مسكين، ولي قضاء مصر الأعلى من قبل الخليفة المتوكل سنة ٢٣٧هـ. ويصف لنا الكندي مؤرخ قضاة مصر حتى منتصف القرن الرابع، شخصية الحارث بن مسكين وطريقته في الحكم، نقلا عن ابن قديد، وهو فقيه ومحدث مصري عاصر الحارث وعرفه. كان الحارث شخصية غريبة قوية، وكان شديد الحرص على حريته واستقلاله، وكان مقعداً، يركب حمارا مبرقعا، ويحمل في محفة إلى مجلس الحكم بالمسجد الجامع (جامع عمرو)، وكانارما شديد الوطأة جريئا في أحكامه يأبى تلقى الولاة والسلام عليهم. وطلب إليه أن يلبس السواد، وهن شعار بني العباس فأبى حتى انتهى بعض أصحابه بإقناعه بأنه إذا لم يرتد السواد اتهم بالانحراف عن بني العباس والميل إلى بني أمية، فارتدى عندئذ كساء اسود من الصوف. وكان كثير الاجتهاد والابتكار في إجراءاته وأحكامه. ويورد لنا الكندي طرفا من هذه الإجراءات والأحكام، ويذكر لنا كيف أن الحارث بن مسكين آثر الاستقالة على قبول التدخل في أحكامه. وذلك أنه رفع إليه نزاع على ملكية دار الفيل، وهي إحدى دور الفسطاط الشهيرة، وكانت لأبي عثمان مولى الصحابي مسلمة بني مخلد الأنصاري؛ وكان قد قضى في شإنها قبل الحارث عدة من قضاة مصر، فقضى فيها أولا هرون بن عبد الله بإخراج بني البنات من العقب باعتبار أن لا حق لهم في الميراث؛ ولكن خلفه محمد بن أبى الليث قضى بإلغاء هذا الحكم، وحكم لبني السائح المدقين بنصيبهم في الدار؛ فلما رفع النزاع مرة أخرى إلى الحارث بن مسكين، فسخ حكم بن أبى الليث، وقضى بإخراج بني السائح من الميراث، فسافر ابن السائح إلى بغداد، ورفع إلى الخليفة المتوكل تظلما من حكم الحارث والتماسا بإعادة النظر في قضيته، فأحال المتوكل القضية إلى الفقهاء، فحكموا فيها على مذهب الكوفيين، وقضوا بإلغاء الحكم، وكان حكم الحارث على مذهب المدنيين. فلما بلغ الحارث ما وقع، كتب في الحال إلى المتوكل يرفع إليه استقالته من منصبه؛ وقدر المتوكل دقة الموقف فقبل الاستقالة، وكتب وزيره إلى الحارث بقبولها فيما يأتي (إن كتابك وصل باستعفائك فيما تقلدت بأمر القضاء بمصر، وأمر (أمير المؤمنين) أيده الله بإجابتك إلى ذلك. . استعافا لك مما سالت، وتفضل لما أدى إلى موافقتك فيه، فرأيك أبقاك الله في معرفة ذلك والعمل بحسبه) وغادر الحارث بن مسكين منصبه سنة ٢٤٥هـ، وضرب باستقالته مثلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>