فترنح صاحبي جمال وترنحت، وانتشى برحيق الفن وانتشيت. ورحنا نردد البيتين مأخوذين بفنهما الصادق وأسلوبهما الفاتن الذي يفيض سحراً وإبداعاً، ويلتهب وجداً والتياعاً
وقلت له فيما قلت:(ألا ترى في قوله: (شقوة بلغت مداها) قصة الحياة كلها مجلوة على إيجازها في ثلاثة ألفاظ! ألا ترى في هذه الألفاظ القليلة وجازة صادقة لمأساته الفاجعة في لبني؟ ألا ترى كيف تألفت منها صورة كاملة يكاد القلب يذوب لها أسى، وتفنى النفس حسرة على قائلها المبدع العظيم؟ أليست مأساة قيس ولبنى - على الحقيقة - شقوة بلغت مداها؟
وهنا دخل شاعرنا المحتفل به وقد سمع آخر الحوار فقال:
ما أصدق ما تقولان! فان في هذا الشطر وحده قصة كاملة تلخص مأساة قيس ولبناه، وتكاد تلخص كل قصة من قصص الحياة!
ثم تلا البيتين في تأثر وإعجاب في صوت متهدج يكاد يجهش بالبكاء. وكأنما كان يقرأ في ألفاظها سطوراً من صحف الغيب:
(وللنفس حالات تريها كأنها ... تُشاهد فيها كل غيب سَتشهد)
ودارت الأيام وألمت بشاعرنا المحبوب من الأحداث والخطوب: شقوة بلغت مداها.
فكأنها صهرت النار المتأججة منجما ذهبياً حافلا بأروع الكنوز، فأخرجت منه ما فيه من النفائس الغالية سبائك من النضار خالصة من كل شائبة.
وكم ألهبت الحوادث من مناجم فحمية أخرى فأحالتها رماداً تقذى بذرته العيون، وتتقزز لمنظره النفوس.
أيها السادة: لقد أصاب المثل القائل: (كل ما لم يقتلك فهو ينفعك) وصدق الكتاب الكريم (فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً) لقد كانت شقوة بلغت مداها. فأحالها الفن العالي: نعمة بلغت مداها.
(والنحل يجني المر من نورْ الربَّى ... فيعود شُهدا في طريق رضابه)