للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كنا فتياناً أغرارا يوم اقتفينا إثر زعمائنا في مناصبة الدولة العثمانية العداء، وكنا في حمأة من الضلال يوم حاربنا الإنجليز في (كوت الإمارة) وعلى ضفاف قناة السويس مع الجند العثماني جنباً إلى جنب، وكنا في غمرة من الجهل يوم اقتادونا لننتظم في جيش الخلافة نقاتل الأتراك، وكنا في جنون مطبق يوم قاتلنا الفرنسيين في (ميسلون) على أبواب دمشق، ثم لم يدركنا الرشد إلا بعيد فشل آخر ثورة دموية، وكانت جبال الدروز ميدانا لآخر قتال اشتركنا فيه بعد حرب العصابات في (غوطة) دمشق.

مرت بذهني صور تلك الحادثات، وتذكرت أياما قضيناها في السجون، تارة مجتمعين وتارة متفرقين، أما الليلة، أي بعد مضى حوالي ثلاثين عاما، فقد جمعتنا مصادفة من مصادفات المناسبات لتكريم الوزير السوري الأول: الذي ساير ولا بد حياتنا الجهادية تلك التي فتحنا عليها أذهاننا قبل أن تفتح لأنوار المعرفة عقولنا.

هل يعرفنا الوزير؟ هل نعرف الوزير؟ من من شهود هذا الحفل الحاشد يعرفنا؟!!

أسئلة ألقتها عيوننا بالنظرات، وبالنظرات أجابت عنها، فتفاهمنا كما كنا نتفاهم على تنفيذ أمر خطير مدبر! فانسللنا من مكان الاجتماع متعاقبين ليضمنا مجلس هادئ نتكلم فيه على هوانا!!

استوينا في مقاعدنا بمقهى ندخن النارجيلة ونحتسي القهوة، نتكلم عن ماضينا وكيف قطعنا مرحلة الشباب في الثورات والتشرد والمحاكمات والسجون حتى وهنت عزائمنا، وكلت هممنا فصرنا لا نصلح إلا لِعَلْك حياتنا الماضية واجترار أحداثها.

قال أحدنا: (منذ أخفقت الثورة الدرزية بسبب اختصام زعمائها على الزعامة الكبرى، وعلى استئثار كل فئة من المتحزبين بالأموال التي كانت ترد من هنا ومن هناك باسم الثورة، انسللت من بين الصفوف ولذت بمصر أداوى جراحاً حملتها أوسمة لا تصدأ ولا تمجد حاملها؟!!

فأجابه أحدهم مازحاً: (ظننت والله أنك سبقتنا إلى العالم الآخر). فرد عليه بلهجة جدية قائلا: أتحسب وفاء مني أن أرحل وأترككم هنا؟

وقال آخر: لقيت السلامة في سكنى هذا البلد الذي لم يعرفنا أهله إلا عن طريق السياسة؛ فصرت أعمل، لا عمل المطمئن المستقر، بل عمل إنسان (على سفر). وبالرغم من هذا

<<  <  ج:
ص:  >  >>