عمدنا إلى خيولنا، وكانت مربوطة في غيضة تبعد قليلا عن ميدان المعركة، وما كدنا نقطع بها البقعة الكثيفة الأشجار حتى تبين أن أسراباً من جند الأعداء تسرع من ناحيتين لتطويقنا. أطلقنا الأعنة لأفراسنا التي استثارتها صيحاتنا لننجو من الرصاص المصوب إلينا من الجانبين ومن الخلف وكان يتساقط علينا كالبرد.
ليس من المغالاة في شيء أن أقول لكم يا إخواني إن الخيول تنخو ككرام الرجال، وتنتشي إذا انتصرت كطبائع الناس. إن أنس لا أنس كيف كنت أتشبث بعرف فرسي كالطفل، وكيف ألصقت صدري بالسرج، تاركا لها العنان، وكيف تمهلت ثم التفتت، ثم أطلقت صهيلا تتحدى به اللاحقين بنا، وتندد بعجزهم عن إدراكنا، وأخذت تمشى الهوينا متبخترة كالغادة الهيفاء.
زال عنا خطر إحداق أعدائنا بنا، وأخذنا نفكر أين نبيت وماذا نأكل. قال أحدنا يمازحنا، ننام حيث تنام خيولنا، ولكن هل في وسعنا أن نأكل من زادها؟!
نبه مزاح صاحبنا معدنا فأخذنا نتلمسها، وبينما نحن نلاطف معدنا الخاوية، وإذ بأزيز طيارة يملأ الفضاء. نسينا الجوع كما نسيتنا معدنا، وفى هنيهة وجيزة، وبدافع من حب البقاء عمدنا إلى خيولنا؛ فأنمناها على جوانبها متباعدات، وانبطحنا بعيدين قليلاً عنها.
عجباً لتلك الأفراس كيف أدركت الخطر الداهم فاستنامت كأنها خائفة مثلنا، وكأن حب البقاء كان رائدها أيضا!
أخذت الطيارة تهبط كأنها فوقنا وتحوم حولنا. لقد كشفنا قائدها الخبيث، رأيتها ترتفع، ثم سمعت بأذني سكوت محركاتها، وسمعت أيضاً أزيز القنبلة في سقوطها وقد أدركت هدفها.
نزلت النازلة ورأيتها رأي العين تسقط على قيد أمتار منى، أحسست أنا الذي ما آمنت قط بغير قدرة الإنسان، أن كل ذرة من وجودي تهتف بقوة وضراعة تستنجد بخالق الإنسان، وقدرت أنى ورفاقي من الموت على طرفة عين.
انقضت الثواني والدقائق. لقد تفكك في غضونها كل عضو في مفاصلي إلا ذهني فقد بقى في يقظة يرتقب الموت المحتوم حين انفجار القنبلة. . .
القنبلة لم تنفجر! لم تنفجر القنبلة لأنها صادفت أرضاً رطبة!
آه. . . يا للأسف!! صرخة صرخها أحد المنصتين، وقد خرجت من أعماق صدره، وقد