فرجعتني والله إلى الشك وكدت أدع الموضوع. ثم فكرت فرأيت أن لكل عمل نتيجة، ولكل مسير غاية، والغاية من المدرسة إما أن تكون الشهادة أو العلم أو الإعداد لخوض لجة الحياة والنضال عليها. أما الشهادة فلا بحث فيها لأنها عرض لا جوهر، ووسيلة إلى غيرها لا يصح الوقوف عليها، ولا القناعة بها؛ وهي بعد كاسمها (شهادة) قد تكون مزكاة عادلة، وقد تكون شهادة زور تعطى لغير أهلها، وتمنح من ليس من مستحقيها. وما ينفع الفقير المفلس أن يشهد له الناس جميعاً بأنه الغنى ذو القناطير المقنطرة من الذهب والفضة؟ أما العلم فاسألوا المتعلمين ماذا بقى لهم من دروس الثانوية، بل تعالوا أحدثكم ما جربته بنفسي وما شاهدت عليه تلاميذي، ولقد كنت في دراستي الثانوية مجلياً دائماً أو مصلياً، ولم أكن فسكلا، ولقد اشتغلت بالتعليم الأولى والابتدائي والثانوي، الأهلي والرسمي والديني، أربع عشرة سنة، قبل أن أَلي القضاء، في مدارس الشام والعراق ولبنان، وعرفت الآلاف من الطلاب. وأقل ما أستفيده من هذا أني إذا تكلمت أتكلم عن خبرة واطلاع. أقول: إني وجدت بالتجربة أنه لم يبق عندي الآن مما أمضيت في تعلمه السنين الطوال، إلا ما كان طبعي منصرفاً إليه من علوم الدين واللسان والتاريخ والفلسفة، وما عدا ذلك من العلوم الرياضية والطبيعية (لا الطبيعية كما يقول بعضهم. . .) فلا أكاد أعرف منه الآن إلا أشياء عامة جداً. أما التفاصيل والدقائق وأعيان المسائل فقد نسيتها كلها. ولو سئلت عما أعرفه من المثلثات (مثلا) لأجبت صادقاً أني لا أعرف إلا شيئاً اسمه الجيب والتجيب (ثمام الجيب) والمماس. لا أعرف ما هو على التحقيق، حتى موضوع العلم على وجه التحديد فقد نسيته، مع أن علامتي في السنة لتي قرأنا فيها المثلثات كانت تسعاً من عشر وكنت المجلي (الأول) في صفي (أي فصلي) أما الكيمياء العضوية فلا أعرف منها إلى أن فيها شيئاً اسمه (الميتان) وتركيبه جزء من الفحم وأربعة من مولد الماء أي الهيدروجين - وقد درست جغرافية بلاد الدنيا الطبيعية والسياسية والاقتصادية، وكنت مع ذلك كلما سمعت باسم مدينة جديدة يأتي في أخبار الحرب أجدني أجهل مكانها، وأذهب فأسأل عنها الكتب والمصورات، أستوي في ذلك أنا ومن لم يقرأ الجغرافية قط. وكل من عرفت من الطلاب هذه حالهم لا يستقر في رؤوسهم إلا ما يختصون به أنفسهم، وإخلاصات موجزة، أفما كان خيرا لهم لو أقرأناهم هذه الخلاصات من الأصل؟