ووزعت رجالي توزيعاً يوهم العدو بكثرة عددنا، وأوصيت بعدم الإسراف في إطلاق الرصاص ليكون متواصلا، ووقفت في مكان مرتفع مع بعض زملائي نرقب الموقعة ونديرها.
لم أر ولم أسمع في حياتي عن موقعة التزم رجالها ضبط النفس والعمل بإقدام وشجاعة وحزم كتلك الموقعة التي كانت كأن الصخور والمتاريس وأكوام الحجارة هي التي تنفجر فتطلق النار فتصيب الهدف، لا رجالا مثلنا من لحم ودم.
أخذت الشمس تميل إلى الغروب، ولم يتقدم العدو خطوة إلى الأمام، ولم يتبين له أآدميون يقاتلونه، أم مردة وشياطين يصبون عليه الموت، وبينما نحن في هذا الموقف ترفرف فوقنا أجنحة الشعور بالظفر على العدو وإفساد خططه، وإذا بصوت من الخلف يناديني باسمي مقرونا بصفة حبيبة إلى قلبي (يا صديقي العزيز، لا تظن أني أغتالك غدراً بل أقتلك دفاعاً عن قومي وشرفي العسكري) وصوب بندقيته وسددها.
يكفي أن أقول لكم يا إخواني إن خمس بندقيات صوبت في لحظة واحدة إلى صدر (صديقي العزيز) وإلى من مكان معه من ضباط، وأن رصاصتي كانت الأسبق إلى قلبه.
بكيت ذلك الصديق، وما برحت أبكي سجاياه وشمائله، لأنه إنسان مهذب.
سأل واحد من المستمعين بتلهف عن مصير تلك الموقعة فأجاب المتحدث بصوت تخنقه العبرة الجامدة، (لقد تولى رفاقي إدارتها بنجاح حتى ارتد العدو أما أنا فقد واريت قتيلي التراب).
من يراقب أولئك الأصدقاء يؤلفون دائرة في وسطها نرجيلات نكركر، وأنفاس تطلق في الهواء، يحس بأن لا فارق بين المتحدث والسامع في اعتصار أحداثه من قرارة نفسه، وأن الكلمات المهموسة تبلغ مكمن الضمير وحنايا الوجدان.
- ٤ -
أحدثكم أيها الرفاق عن حادثين متناقضين يسبقان أحداث الثورات الداخلية، لعلي أعيد بهما نضرة الحياة إلى وجوهكم وقد فنيت فيها البشاشة وغاضت مياهها.
وحكايتي لابد لها من مقدمة أقرر لكم فيها، أن المبادئ التي يصطنعها أصحاب الأغراض الوطنية ويتخذها الشبان مثلا عليا، ليست إلا سطورا مسجاة في صدورنا، أو جثثا مدفونة