منها النور فيضئ الطريق ويسار فيه إلى الغاية. وكل أولئك عوامل تكوين وتلوين غير شعورية، يخضع بها العقل الواعي إلى أخيه الكبير فيما وراء الوعي. فإذا أردنا التمتع بحرية الرأي بالحق وبالصدق، والإتيان بالأفكار المستقلة، كان علينا التصرف بتلك المنطقة النائية من العقل والتجرد من نزعاتها الشاذة فيما ندع وفيما نصدع وفيما نقدر به الأشياء ونقول كلمة الفصل.
ليست الحرية عندي في أن نفكر فيما نريد وكيفما نريد وأن نقول وأن نعمل، وانما الحرية في تلك السيادة التي يفرضها العقل الشاعر على ما وراءه من عقل غير شاعر تحيا فيه جراثيم الزمن لتكون ذاته وصفاته وتجعل منه ولياً للأمر، ينطق بفصل الخطاب ولكن من وراء حجاب. ولسنا من الحرية في شيء إن لم نخضع العقل إلى تجارب الواقع وننقذه من غوائل ما بكته فكبته.
لا حرية إلا في ذلك التجرد الذي يجريه العقل على نفسه، فيمحو ويثبت غير خاضع إلا لما يرى أنه الحق المطلق من قيود الماضي وأثقال كل رغبة شاذة. وفي موضع هذا التجرد من العقل تتلاشى الألوان وتزول الموانع. ويصبح العقل في موقف من الطبيعة كموقف الطبيعة منه؛ يتفاعلان على هدى ويعملان على غير سدى ولا يزالان دائماً أبداً. (بغداد)