فمثل هذا البيت لابد أن يقرأ في هدوء وتؤدة وأن يعاد غير مرة حتى نستوعبه فهماً.
لكن هذا النوع من الخفاء لا يعترض عليه؛ بل قد يكون جميلاً مستحسناً. أما النوع الأخر فهو الذي دار فيه الجدال في (الرسالة) من قبل. وذلك أن هنالك شعراء لا يعنون فقط بالصور الواضحة الملموسة البارزة، بل يكون كذلك بالصور التي يحيط بها غشاء من الإبهام، كالتي يراها الحالم بين النوم واليقظة أو كالظل لا هو نور ساطع ولا ظلام حالك. وهذا ما يعبر عنه في الفرنسية ذلك مذهب الرمز بين أمثال فرلين وأتباعه يمثلهم في الشعر الإنكليزي إلى حدٍّ ما الشاعر سوِ ْنبِرْن.
فالقارئ لأمثال هؤلاء الشعراء يجد في شعرهم موسيقى بديعة وأنغاماً رخيمةً. أما المعاني البارزة الملموسة فإننا قد نطلبهادائماً، ولكنا لن نجدها دائماً. ويجب أن نكتفي منهم بصورة لا نعيها تماماً. بل نفهمها نصف أو ربع فهم. وذلك بالطبع لأنهم هم أنفسهم لم يفهموها الفهم كله، وإنما تأثروا بها غامضة مبهمة خافية، وأرادوا أنينقلوا هذا ألينا هذا الأثر كما هو.
وفي شعر علي محمود طه شيء يسير من هذا. نجده في مواضيع متفرقة، في مثل قصيدة (عاصفة في جمجمة)، أو في (الله والشاعر) وفي غيرهما. وكثير منا يعز عليه أن يمر بالبيت فلا يحيط بمعناه تمامًا، أو بالصورة فلا يتبين شكلها تماماً. وهذا الطراز من الناس لا يميل إلى هذا الضرب من الشعر وينكره. وقد يكون له بعض الحق في هذا الأنكار، ولكن يجب أن نذكر أن الشاعر الذي يخلص لشعره ولشاعريته مضطر لأن ينقل إلينا ما يراه أو يتوهمه من الصور واضحة من الصور واضحةأو خافية.
والذي قد نؤاخذ الشاعر عليه حقيقة شيء واحد، ومن السهل جداً عليه معالجته إذا وافقنا على رأينا فيه، وذلك أن الشاعر خيالاً قوياً مفرطاً في القوة، وكثيراً ما يركب هذا الخيال بلا سرج ولا لجام فيذهب به فيفياف بعيده وأقطار قاصيةلا نستطيع غالباً - أن نصحبه إليها. هذا الخيال القوي الذي كثيراً ما يطربنا ويعجبنا نراه أحياناً يتعبنا وينصبنا.
يعجبنا حين يرينا الشاعر هذه الصورة:
أيها الشاعر الكئيب مضى الليل ... وما زلت غارقاً في شجونك
مسلماً رأسك الحزين إلى الفكر ... وللسهدذابلاتجفونك