كعب بفدائه فقدما مكة، ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وهو لم يبعث بعد، فقالا له: يا ابن عبد المطلب، يا ابن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله، تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ولدنا عندك، فامنن علينا، وأحسن في فدائه، فإنا سنرفع لك. قال: وما ذاك؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال: أو غير ذلك؟ ادعوه فخيروه، فإن أختاركم فهو لكم بغير فداء، وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء. ثم دعاه فقال له: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا أبي، وهذا عمي. فقال له: فأنا من قد علمت، وقد رأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما. فقال: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا له: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك. فقال لهما: قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً: فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، ثم انصرفا إلى قومهما.
فصار زيد يدعى زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام، فكان من أسبق الناس إسلاماً، ثم هاجر إلى المدينة، وقد زوجه النبي صلى الله عليه وسلم مولاته أم أيمن، فولدت له ابنه أسامة. فلما كانت السنة الخامسة من الهجرة أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبطل عادة التبني، لأنه لا يصح أن يكون الولد ولداً بقول تنطق به أفواهنا، وإنما الولد قطعة من أبيه، فهو أبوه بذلك أراد أو لم يرد، وهذه هي الحقيقة والفطرة وما عداها كذب وغش، وليس للرجل أن يكون له حق إرث أقربائه، ثم يأتي بأجنبي عنهم فيجعله ولداً له، ويؤثره بإرثه دونهم، فذلك ظلم من أكبر الظلم، وقطيعة لا ترضاها شريعة من الشرائع العادلة.
فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار له زوجاً ليعقبه عليها ويبطل بالفعل قبل القول تلك العادة الظالمة، ولهذا خالف ما فعله معه في الزواج الأول حين اختار له مولاته أم أيمن، فكان نسبها قريباً من نسبه، لأن قرب منزلة الزوجين في النسب له أثر في الألفة بينهما، وفي عدم تعالي أحدهما على الآخر، فتطيب بذلك عشرتهما، وتستقر به رابطة الزوجية.
ولكنه في الزواج الثاني كان يعلم أن مآله إليه، فلم يختر فيه لزيد بل اختار لنفسه، ليقضي الله ما أراده من إبطال عادة التبني ولا يكون عليه حرج في زواج من لا يريدها إذا أرادها