إذ ليس من الأدب أن أدخل على متحدثين، فسقط إلى كلام لا يستطيع المرء أن يغلق أذنيه عن مثله، ولم يكن استراق السمع من عادتي، غير أني وقفت، وقد أدركت أن (فلاناً) هذا، يتحدث مع (رجل. . .) أعرفه من أذناب القوم ومن أعوانهم، وممن رفعوا إلى المناصب العالية، وكانا يتشاكيان الفراق، ويتحدثان وكأنما يتباكيان. ورب كلمات يقطر منها الدمع! ورب حروف هي قلوب تتفطر! ويتذكران الأيام الماضية، وكيف دارت الأيام، وكان من حديث صاحبنا الشامي الذي سمعته مترجماً إلى لغة القلم ولسان الأدب، قوله:
- لئن كتب عليكم أن تذهبوا، فإنكم ستعودون عاجلاً، ثم لا تذهبون أبداً. على أني سأنتقم لكم، وسأعد وحدي العدة لعودتكم. سأصنع في ليالٍ ما لم تصنعوه أنتم في ربع قرن وتسعة أشهر. . . سأريكم قوتي. وليست القوة أن تسوق على عدوك العسكر اللجب والمدافع والدبابات تضرب بها قلعته، ولكن القوة أن تأتيه باسماً مصافحاً فتحتال عليه حتى يفتح لك قلعته بيده، فإذا أنت قد امتلكتها بلا حرب ولا ضرب. إني سأدس لهم دسيسة في عيد الجلاء. لا أصبر والله حتى ينتهي العيد. إنها فرصة إن لم أغتنمها لم أكد أجد مثلها وأنا أعرف بأهل بلدي، وإن لم يكن دينهم من ديني: إنهم لا يؤتون بالقوة ولا تنفع فيهم، وقد جربتم ورأيتم، فما قتلتم منهم مبغضاً لكم إلا ولد عشرة هم أبغض منه لكم، وما هدمتم داراً من دورهم إلا هدمتم معها ركناً من (انتدابكم) عليهم، ولا أشعلتم النار في حي لهم إلا كانت هذه النار حماسة في قلوبهم عليكم ونار ثورة تتبعكم. ولا يؤخذون بالشبه تلقى عليهم في دينهم، ولا بالثقافة التي تحمل الإلحاد والكفر تحت عناوين العلم والفن، وما جئتموهم بكتاب هو في زعمكم هدم لدينهم إلا أثرتم عليكم مشايخهم وجمعياتهم، فهبوا يدافعون، فإذا أنتم قد قويتم بعملكم إيمانهم في صدورهم. وما ينالون بالقوانين التي تبطل قرآنهم، وقد علمتم حينما جربتم أن تأتوهم بالظهير البربري مهذبا ملطفاً لابساً ثوب (قانون الطوائف) ماذا جرى عليكم حتى أبطلتموه بأيديكم، ولا بالأموال التي تشرون بها ضمائر زعمائهم وقادتهم: لأن من هذه الضمائر ما هو كالموقف (عندهم) لا يباع ولا يشرى ولا يوهب، ولا بإرهاب الزعماء وحبسهم، وهذا هو الرجل الذي ضربه سنة ١٩٣٦ رجالكم بعصيهم صار هو رئيس الجمهورية التي تخرجون غداً منها. . .