وطابت له الهجرة، ولكن إلى حين! من أجلها دار هذه الدورة التاريخية من الشرق إلى الغرب، مخترقاً قلب هذه القارة الطاغية الجبارة (أوربا) في سبيل تلك الغاية الواحدة (فلسطين)!
وأنه ليقيم في باريس، في ضيافة فرنسا، في تلك الفيلا الهادئة المنعزلة قرب (السين)، فهلا يستريح؟ كلا! وأي نجم في السماء يستريح؟ كلها تدور كما جار هو صابراً ثابتاً، من برج إلى برج، في هدوء وإشراق، لا تقف في منتصف الطريق، لا بد من أن تتم الدورة، لا بد من (العودة) إلى هذه النقطة التي بدأ منها، والتي أتجه إليها دائماً بروحه وقلبه، والتي يعيش من أجلها. . . فلسطين أنشودته الخالدة:
فلسطين يا فلسطين ... أنت لي دنيا ودين!
الإنجليز يطاردون واليهود يترصدون، والفرنسيون مترددون مراقبون، ولكنه هادئ باسم، لأنه مؤمن ولأنه واثق: مؤمن بالحق، وواثق بالله. . . . مؤمن بأنه يجب أن يعود، وواثق بأنه سيعود!
وماذا يكلفه ذلك؟ إنه لا يملك شيئاً إلا روحه، وهي رخيصة في سبيل غايته؟ لقد عرضها على الموت في كل آن، منذ أن بدأ جهاده في سبيل الحق وهو يبحث عن الموت ويطلبه في سبيل بلاده وعقيدته، ولكن الموت عنيد لا يطلب من يطلبه. . . فليجاهد حتى الموت!
وكيف يعود؟ لا بد من إذن الحكومة الفرنسية، ورضاء الحكومة الإنجليزية وطلب الحكومات العربية، ولا بد من إجراءات دبلوماسية تطول، وعقبات سياسية لا سبيل إلى تذليلها الآن!
كلا! دعوا كل هذا، وأقرءوا هذا الوجه الهادئ الواثق، هناك ابتسامة عريضة تكاد ترسم قوساً تحت هذا الأنف العربي الأشم، إنه سيعود، إنه لا يفصله عن غايته إلا مثل هذا القوس، الطريق من باريس إلى الشام لن يكلفه أكثر من هذه الابتسامة المؤمنة الهادئة، ما دام أنه يجب أن يعود، فلا بد أن يعود، ولا يمكن أن يبقى تحت رحمة السياسة الدبلوماسية، وخير له أن يخاطر ليعرض روحه على الموت مرة أخرى في سبيل غايته، فإنه سيبلغ بلا شك إحدى الحسنين! دين آبائه وأجداده من قبل! فليعد مخاطراً مجازفاً، سواء رضيت إنجلترا أو لم ترض، سواء أذنت أو لم تأذن. . . لا بد من العودة. . لا بد منها. . .