ليس فيها الجمع ولا الحرص، ولكن فيها الذهن والفكر، وليس لها طبيعة الرغبة والغفلة، ولكن طبيعة الانتباه والتحرّز، وليست في أسر المادة، ولكن المادة في أسرها ما شاءت.
ولا يسمى فقرة صلى الله عليه وسلم زهداً كما يظن الضعفاء ممن يتعلقون على ظاهر التاريخ، ولا يحققون أصوله النفسية، وأكثرهم يقرأ التاريخ النبوي بأرواح مظلمةٌ تريهم ما ترِي العينُ إذا ما اختلط الظلام ولبس الأشياء فتراءت مجملة لا تفصيل لها، مُفْرغة لا تبين فيها، وما بها من ذلك شيء، غير أنها تتراءى في بقية من البصر لا تغمرها.
وهل الزهد إلا أن تطرد الجسم عنك وهو معك، وتنصرف عنه وهو بك متعلق؟ فتلك سخرية ومُثْلةَ، وهي في رأيي تشويه للجسم بروحه، وقد تنعكس فتكون من تشويه الروح بجسمها فليس يعلم إلا الله وحده: أذاك تفسير لإنسانية الزاهد بالنور، أم هو تفسير بالتراب. . .
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يملك المال ويجده، وكان أجوَدَ به من الريح المرَسلة، ولكنه لا يدعه يتناسل عنده، ولا يتركه ينبت في عمله، وإنما كان عمله ترجمة لإحساسه الروحي، فهو رسول تعليمي، قلبه العظيم في القوانين الكثيرة من واجباته، وهو يريد إثبات وحدة الإنسانية، وأن هذا الإنسان مع المادة الصامتة العمياء مادةٌ مفكرةٌ مميزة، وأن الدين قوة روحية يلقىَ بها المؤمن أحوال الحياة فلا يثبت بازائها شيء على شيئيّته، إذ الروح خلود وبقاء، والمادة فناء وتحوُّل، ومن ثم تخضع الحوادث للروح المؤمنة وتتغير معها، فان لم تخضَع لم تُخْضِعْها، وإن لم تتغير لا تتغير الروح بها، وأساس الإيمان أن ما ينتهي لا ينبغي أن يتصرف بما لا ينتهي.
وما قيمة العقيدة إلا بصدقها في الحياة، وأكثر ما يصنع هذا المال: إما الكذب الصُّراح في الحياة، وإما شبهة الكذب، ولهذا تنزَّه النبي صلى الله عليه وسلم عن التعلق به، وزاده بعداً منه أنه نبيّ الإنسانية ومثلُها الأعلى، فحياته الشريفة ليست كما نرى في الناس إيجاداً لحلّ مسائل الفرد وتعقيداً لمسائل غيره، ولا توّسعا من ناحية وتضييقا من الناحية الأخرى، ولا جمعا من هنا ومنعا من هناك، بل كانت حياته بعد الرسالة منصرفة إلى إقرار التوازن في الإنسانية، وتعليم الجميع على تفاوتهم واختلاف مراتبهم كيف يكون لهم عقل واحد من الكون. وبهذا العقل الكوني السليم ترى المؤمن إذا عرض له الشيء من الدنيا يفتنه أو