ففي هذين الوقتين تزدهر شوارع القاهرة الحديثة بزهرات شتى الألوان من بنات الإنسان، فتملأ الجو عطراً، والعيون سحراً، والقلوب فتنة!
وهنالك على أفاريز الطرق، ومشارف المقاهي، تقف أبصار الكهول والشيوخ حائرة مبهورة تلسع بالنظر الرغيب هذا الحسن المصون! وبين النظرة والنظرة عَبرة جافة تَصعَّد أسى على شباب ذاهب لا يرجع، وجمال رائع لا يُنال!
وفي الربيع تضطرم العواطف والعزائم في الشباب، فينفحون بالأمل والطموح والحب نَفَحان الورُود النِواضر بِعَرْف الطيب! فقصائدهم الغزلية تنثال كل يوم على بريد (الرسالة) فيحول بينها وبين استيعاب (نشرها) العَطِرِ صفحاتها المعدودة.
وكتبهم القيمة تظهر فياضة بالأفكار الوثابة، والعواطف المشبوبة: كالفكر والعالم، والشعبية، وعلى طريق الهند، والحياة الثانية، والربيع، والضحايا، وغير ذلك مما نقرأه الآن لنعود إلى نقده وتحليله بعد.
ومشروعاتهم الاقتصادية والثقافية تظهر موسومة بطابع الإقدام والإخلاص والوطنية؛ كمشروع تعاون الشباب لمزاولة الأعمال الحرة، ومشروع القرى لتثقيف العامة.
وفي الربيع تحتدم الطباع في الأدباء الكهول، فيثب بعضهم على بعض بالهجو المقذع والنقد اللاذع، ويتنافرون تناقر النسور على الصخور، والطيور الوديعة جاثمة في ظلال الغصون ترقب المعركة على بعد، فكلما رأوا الريش المنتوف والدم المنزوف، كبّروا واستبشروا، ودعوا الله في أغرودة شامتة أن يتفانى الفريقان، ليخلو الجو من البزاة والعقبان!
وأدباؤنا الكهول شديد بعضهم على بعض! فهم يسخون بالنقد الممِض، ويضنون بالتقريظ العادل، كأنما العصر لا يحتمل غير كاتب من الكتاب، والمكاتب لا تحتمل لغير كتاب من الكتب!
ويعجبني الأستاذ صاحب رواية (الهادي): عرف أن الأدباء ربما خرجوا عن نقدها وتقريظها بالصمت كالعادة، فكتب هو في مدحها فصلا في البلاغ. والإنسان أولى الناس بخيره، وأعرف بقيمة عمله من غيره.
وفي الربيع تتقد حَمِية العروبة في العرب. فتسمع اليوم في فلسطين والشام أبناء الشعب