للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن دواعي العجب لا تلبث أن تزول إذا ذكر المرء مبلغ ما أوتى الشاعر من خصوبة الخيال وقوته، وما رزق من دقة الوصف وروعته، وما وهب من قدرة على الابتكار والتفنن في خلق الصور الذهنية الأخاذة والتصرف في مذاهب البيان، هذا إلى ما يشيعه في قصته من فلسفة وعلم، وما يدخله بين الفنية والفنية من أساطير الإغريق وآلهتهم وسائر مخلوقاتهم مما يملأ قصيدته بألوان من السحر وأفانين من كل ما يفيد ويمتع.

والقصيدة ليست بنت هاتيك السنوات الخمس التي نظمها فيها، وإنما هي متجه خاليه وأرب نفسه منذ أول عهده بالشباب، فقد كان أمله الذي ملأ خياله منذ حداثته أن ينظم قصيدة تجعل له ولأمته مكانا عليا في أدب هذه الدنيا؛ والى ذلك أشار في قصيدته التي ناجى فيها لغة قومه وهو في سن التاسعة عشرة كما سلف أن ذكرنا ذلك في موضعه، وإن لم يك عين موضوع تلك القصيدة بعد.

ولم يتعجل ملتن النظم، بل اخذ يتهيأ لما يطمح إليه فينهل من المعرفة ما يسعه أن ينهل، وفي نفسه أمل يلازمه ولا يبرح يذكره أنه سوف ينظم في يوم ما ملحمة كبرى تسلكه في الخالدين النابهين من شعراء الدنيا، أما ماذا تدور عليه الملحمة فذلك أمر لم يتبينه وحسبه أن يطلب لنفسه ما وسعه من زاد في الفلسفة والعلم.

وكان يفكر كما ذكرنا قبل في الملك آرثر وعصره وبطولته وسيرته عله يستخرج من ذلك ملحمة قومية كان يريد أن يسميها الآثريادا، وتقع إشارتان منه إلى ذلك إحداهما في قصيدة أخرى نظمها عقب عودته إلى وطنه؛ ولكنه ما لبث أن طرح موضوع الملك آرثر جانبا ولم يعد إليه بعد ذلك.

وظل ملتن متعلقا بأمله في نظم قصيدة كبرى، وكان هذا التعلق المتصل بالأمل المنشود هو الفكرة المتسلطة في حياته كلها من جميع أقطارها ولذلك لم يأل جهدا في الإفادة مما حوله فكان انقطاعه للدراسة في هورتون، وكانت رحلته إلى إيطاليا وكان منصبه في الدولة وكانت كتاباته الدينية والسياسية، كل أولئك كان جوانب لدراسته وموارد لثقافته قصد إلى ذلك أم لم يقصد إليه.

وانقطعت صلته بالشعر زهاء عشرين عاما إلا ما كان من مقطوعاته، ولكن خيال القصيدة الكبرى لم يبارحه قط، وليس أدل من ذلك على شدة إيمانه بأنه خلق لرسالة في الشعر

<<  <  ج:
ص:  >  >>