نفسه في هذا الشأن. وحينما كان الفلاحون يضيقون بملاقاته على أطراف حقولهم وحافات إنفاقهم كانوا يصيحون به: لما لا تذهب إلى القرى الأخرى بدلاً من تنقلك هنا على الدوام؟ لم يكن يحير جواباً، بل يبتعد عنهم وهو يشعر بنوع من الخوف المبهم من المجهول، خوف البائس الذي يخشى أموراً كثيرةً لا يتبينها، كالوجوه الجديدة، أو اللعنات، أو النظرات المرتابة التي يرميه بها أناس لا يعرفونه، أو الشرطة الذين يمرون بالطريق اثنين اثنين، والذين كانت رؤيته إياهم تحمله بالغريزة على الإمعان في الشجيرات الوحشية أو الاختفاء وراء كومة من الحطب.
حينما كان يلحظهم من بعيد، ويرى بريق ثيابهم تحت أشعة الشمس، كان يجد للتو خفة غريبة خفة الوحش الذي ينشد الملاذ ويطلب النجاة. فينسلت من بيع عكازيه ويسقط على الأرض كالخرقة، ثم يتدحرج كالكرة ولا يلبث أن يتصاغر ويتضاءل كمنظر أرنب في حجرها وقد اختلطت أسماله القائمة بالأرض.
ومع هذا لم يسبق أن كان له معهم شأن من الشؤون. ولكنه كان يحمل هذا الشعور في دمه كما لو كان قد ورث هذا الخوف والمكر عن أبويه اللذين لم يعرفهما البتة.
لم يكن له بيت يؤويه، فلا سقف يغطيه ولا كوخ يضمه ولا ملجأ يحميه. كان في الصيف ينام في أي مكان. وفي الشتاء كان ينفذ إلى مخازن الغلال أو في زرائب الماشية بمهارة ملحوظة، كان يبادر دائماً إلى الفرار قبل أن يحس وجوده أحد. وكان يعرف الثقوب التي يمكن بواسطتها النفاذ إلى المنازل والأبنية. ولما كان طول استخدام عكازيه قد أكسب ذراعيه قوة غير عادية، فقد كان يصعد متسلقاً إلى سطوح الأهراء معتمداً على قوة راحتيه وحدهما حين يظل أحياناً أربعة أو خمسة أيام دون حركة حينما يكون قد جمع مؤونة كافية.
كان يحيا كوحش الغابة وسط الناس دون أن يعرف أحداً أو يحب أحداً. ولم يكن يترك في نفوس الفلاحين إلا نوعاً من الازدراء الخالي من الاكتراث، والبغض الذي يمازجه الأغضاء وقد لقب كلوش لأنه كان وهو يترجح بين قدميه الخشبيتين أشبه بالناقوس وهو يترجح بين محوريه.
وقد مضى عليه يومان لم يطعم فيهما شيئاً ولم يمنحه أحد شيئاً، فقد ضاق به الناس جميعاً وأرادوا أن يفارقهم ويذهب عنهم.