للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هو أكبر منه سناً وأوسع تجربة، حتى يريش ويهرم، فهو أبداً في دراسة دائبة، واختبار متصل. ولم يكن مقياس النبوغ سعة القراءة والرواية، وإنما هو الفهم السليم والنظرة الصائبة. وكانت الآداب على اختلافها دروباً متشعبة تنحدر كلها به إلى النفس الإنسانية يطالع منها ما يطالع ثم يجمع المتشابه ويفرز المتشابك، ويستعمل النابه ويعنى بالضعيف الخامل. أما القصة فما كانت تتلى للتسلي والمفاكهة أو لتزجية الوقت والفراغ، وهي التي قد تبلغ عشرات المجلدات مخطوطة ومطبوعة، وتلاقي من الرواج والذيوع ما يستدعي الدهشة والإكبار! هذا إلى تراجم المؤرخين، وتأملات الحكماء، ومواعظ الزهاد والخطباء، مما يوقظ العاطفة والشعور ويربي ملكة الانتباه والتفكير. وفي حضرة المرأة والطفل الناشئ كانت تثار في غير تحرج ولا تقية أعوص مسائل الدين والأخلاق والسياسة والاقتصاد. وكان العرف الديني والاعتراف الكهنوتي، وحب الفضيلة يقلق المؤمن، ويقض مضجعه، ويضطره إلى مراقبة نفسه وإلى التعبير الدقيق عن خطراته ونياته.

ومن ثم كانت النساء اللواتي لم يتعلمن سوى الأدعية والصلوات، وكان الشبان الذين لم يفقهوا غير المبارزة والرقص - كان هؤلاء جميعاً يعبرون عن مرادهم تعبيراً حسناً، ويفكرون تفكيراً صحيحاً، فكانت الكتابة عندهم كالمحادثة والحوار، يمنحونهما الجهد والأناة، ويقصدونهما بقلوبهم وعقولهم مجتمعة متساندة.

أما اليوم فالذاكرة الحافظة هي غاية الغايات، يكدسون فيها ضروب العلوم والفنون على مدى ضيق من الزمن كما يكدسون في المركب أصناف البضائع على غير نظام ولا تؤدة لتقلها إلى المرفأ سالمة لا أكثر ولا أقل. والمرفأ هنا هو الفحص الذي ينتهي عنده الدرس، وينسى الطالب بعده ما اكتسب من العلوم. ذلك بأنه تعلم منفعلاً لا فاعلاً، تعلم كما تدور الآلة من غير وعي ولا تفهم، فالبرامج واسعة، والوقت قصير، والتمثيل منعدم، والهضم سيئ.

وجملة القول أن التربية الحديثة، لا تتلاءم مع شرائط الصحة العقلية، ولا تهيئ العاطفة للفن والكتابة. ومادام الخروج على البيئة مستحيلاً، فإن تهذيب الشعور وتنمية التفكير مطلبان جليلان ينبغي العناية بأمرهما والنهوض بهما.

حمص (سوريا)

<<  <  ج:
ص:  >  >>