وأنا ساكن، يصبح الصباح ويمسي المساء، (والحالة هي هِيَه، والعيشة هي هِيَه)، ما نشطت بالرياضة جسماً ولا شحذت بالمطالعة عقلاً، ولا زكيت بالتوبة نفساً، خسرت هذا كله لأني عصيت أبي، وخالفت عن أمره فلم أثب من الفراش وثباً، وبعت هذه الخيرات بتمددي ساعة تحت اللحاف، فما أعظم المبيع، وما أقل الثمن!
وهذا هو مرضنا جميعاً، وعلة عللنا وسبب أدوائنا، وليس تنقص واحداً منا المواعظ والأفكار، ولا يعوزه معرفة طرق الخير. فالمواعظ مبثوثة في كل كتاب، ومترددة على كل لسان، وماثلة حتى في وفاء الكلب، وصبر الحمار، ودأب النملة، وتوكل العصفور وظاهرة في طبائع الأشياء، وصفات الجمادات، من شاء موعظة وجدها، ومن ابتغى نصيحة وقع عليها. وطرق الخير معروفة لا يجهلها أحد، فكل أب يجد إن فكر خطة لتربية ولده خيراً من خطته، وكل تاجر يجد أسلوباً أحسن من أسلوبه لتوسيع تجارته، وكل رجل يعرف الطريق لتحسين صحته، وإصلاح سيرته في بيته مع أهله وزوجته، وفي طعامه وكسوته، وفي يقظته ونومته وأحمق الناس تمر به نفحات يرى فيها سبيل العقل واضحة، وأفسق الناس تسمو نفسه لحظات يبصر فيها قبح الفسوق وجمال الطاعة، ويشعر بالندم ويعزم على التوبة، ولكن ينقصنا المضاء والتصميم و (الوثوب) إلى الخيرات حين تلوح لنا وتمر بنا.
هذا هو مرضنا الذي طالما أضاع علينا أموالاً ومكاسب، وخيرات ومنافع، وأخرنا والأمم تتقدم، وهو مرض الجماعات منا والحكومات، فأعرضوا تاريخنا الحديث تروا كم فرصة أضعنا وكم غنيمة فوتنا، بل انظروا ماذا صنعنا في هذه الحرب وحدها واعجبوا منا إذا فتحت لنا إلى آمالنا باباً واسعاً فلم ندخله، ووضعت في أيدينا سلاحاً ماضياً فلم نستعمله: عجزنا أن نكون أقوى من عدونا، فأضعفته هذه الحرب لنقوى بضعفه، وشغلته عنا لنغتنم الفرصة فنسترد منه ما سلب منا، فأدركتنا رقة الشعور، فرحمناه، وأشفقنا عليه أن نزعجه بمطالبنا في بلواه، وآثرنا الذوق واللطف على واجب الوطنية والشرف، فلم نفتح أفواهنا لنقول له:(أعطنا الذي سرقته منا) بل أعنّاه على عدوّه وعلى أنفسنا، وأيدناه بألسنتنا وأموالنا وأيدينا، وزعم لنا، أنه ما حارب إلا لينصر الديموقراطية، فقلنا:(صحيح. فلتعش الديموقراطية) وقال لنا إنه يبذل دمه ليدافع عن الضعاف المظلومين، ويطهر الأرض من