للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الأمد فأصبح طبعاً.

يتحدث إليك عن حب خاب وأمل خبا، ثم عن حب ما يزال متقد الجذوة، وهو إن فعل نظر إلى شئ خلفه يشبه الإنسان وسأله أن يخبرك عن (ليلى) ما يعلم فيأخذ شبه الإنسان في الكلام واصفاً المحبوبة. . . فتتوقع أنت في هذه اللحظة أوصافاً تخجل الشمس إبان ضحوتها وتزري بالغصن أوده الصبا. . . تتهيأ أذنك لأوصاف المحبوبة لا يخالجها شك في جمالها وفتنتها، ولكن هذا أمر طبيعي ليس فيه شذوذ؛ أو يرتضي الفنان لنفسه أن تطلق على سجيتها الأولى ولو في الحب؟ لا ودون ذلك الفن أجمع. . . هاهو ذا الوصف يخبرك أن الحبيبة سوداء مفلفلة الشعر معبلة، مثقلة الشحم؛ ثم يلتفت بعد هذا إلى الفنان يسائله في عجب ما يزال متكلفاً: لم تحبها. . . إن كثيرات غيرها يهوينك وبودهن لو نظرت إليهن ولو نظرة واحدة يلتفت إليك الفنان متعجباً من نفسه هو أيضاً ولكنه يحاول أن يغالط نفسه قليلاً فيخبرك أن معشوقته شديدة الحساسية عليمة بنبضات الشعر وخفقات الشعور. وإنها - وهو المهم - تحترم شعوره الحساس الرقيق فهو قد يغضب وقد يضربها ولكنها لا تؤذي إحساسه بكلمة وتحافظ على كرامته ما وسعها الحفاظ ومهما كلفتها تلك الخطة من إجهاد لشعورها الرهيف. . . وجماع أمرها وأمره أنها تفهمه وأنه يفهمها

عجيب أن يتكلم الرجل عن الكرامة ولكن كرامته هي الأخرى شاذة من نوع آخر. . . فهو قد يسألك القرش على غير معرفة ولكنه مع هذا ذو كرامة - وهو يفرط في الخمر على حساب غيره ثم يخرج إلى الطريق العام عربيداً. . . ولكنه ذو كرامة. . . وهو ينتقي أقذر الملابس ويضعها على نفسه كما توضع البردعة. . . وما يزال ذا كرامة.

إن الرجل ليس فقيراً، فهو يعمل ويحصل على أموال كثيرة ولكنه يضيعها لا لشيء إلا ليستجدي، ولعله يستجدي وهي في جيبه لمجرد الشعوذة والمحافظة على كرامته الفريدة.

قرأ ذلك الشاعر في بدء حياته بعض تراجم لشعراء غربيين قدامى - فرأى ما يفعله بودلير وسمع ما قيل عن بايرون، فظن أن الفن عربدة كعربدتهم وتحلل كتحللهم، وظن أن هذه العربدة وذلك التحلل هما الطريق السوي الممهد إلى الخلود. . . نسي الرجل أن هؤلاء كانوا أصحاب أفكار سامية وعاطفة ملتهبة نابضة وعلم مكتمل ناضج وأنهم نجحوا برغم سلوكهم لا بسبب سلوكهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>