للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أقل منه، ويعرف ما عليه فلا يقصر في أدائه، وإن اختلفوا رجعوا إلى العالم ورضوا بحكمه لا يعرفون المحكمة إلا إن استحكم الخلاف، وقلما كان يستحكم الخلاف؟

ألا يزال القاضي الشرعي مرجع كل خصومة، ومصدر كل حكم، يحكم في كل قضية بشرع الله، فلا تطويل ولا تأجيل، ولا مراوغين ولا محامين؟

ألا يزال كل ما يحتاج إليه الناس يصنع في دمشق، فلا يأكلون إلا حاصلات بلادهم، ولا يلبسون إلا نسيج أيديهم، ولا يتداوون إلا بعشب أرضهم، لا يدفعون أموالهم إلى عدوهم، ولا يعينونه بها على أنفسهم؟

ألا يزالون سعداء راضين، قد انصرف العالم لعلمه، والتاجر لتجارته، والطالب لدرسه، والمرأة لبيتها، لا يشتغل أحد بغير شغله، ولا يدخل فيما لا يعنيه، قد تركوا السياسة لنفر منهم أخلصوا لهم فوثقوا بهم، ورأوا أمانتهم فأعطوهم طاعتهم، ورأوهم لا يسرقون مالهم، ولا يمالئون عدوهم، ولا يضيعون مصالحهم، فلم ينفسوا عليه زعامتهم، ولا ضيقوا عليه مكانتهم؟

فقلت للشيخ: منذ كم فارقت دمشق يا سيدي؟

فتنهد وقال: منذ سنة ١٨٩٧، فارقتها شاباً، ولم أدخلها بعد ذلك أبداً.

فرحمت الشيخ أن أفجعه في أحلى ذكرياته، وأن أطمس في نفسه أجمل صور حياته فتلطفت فودعته، ولم أقل له شيئاً، وماذا أقول؟

أأقول له: إن أهل الشام قد انصرفوا عن صدر الباز والميزان والصوفانية والشاذروان وأهملوها حتى صارت مزابل، لأنهم آثروا عليها العباسية والهافانا وشهرزاد ونادي الصفا؟

وإنهم هجروا منازلها التي كانت جنات، ليسكنوا كالإفرنج في طبقات كأنها سجون أو مغارات، وإن أبناء العلماء الأتقياء، صاروا من الفساق الجهلاء، وإن مدارس العلم هدمت أو سرقت، وإن غرفها احتلت لتكون مساكن أو قهوات أو مخادع للشهوات، وإن طلبة العلم الديني يطلبونه للمناصب والمراتب والأموال والرواتب، وأن الأسر انصدع شملها، وتفرق جمعها، وإن النساء ملأن اليوم الطرقات، وأممن المخازن والسينمات، وعاشرن الشبان في المدارس واللهيات، وإن البنات كسدن في البيوت، لما آثر الشباب اللهو على الزواج، والسفاح على النكاح، وأن الأحياء غلب عليها سفهاؤها، وضعف عن حكمها عقلاؤها. وإن

<<  <  ج:
ص:  >  >>