بين أبن وأب؟ إن الابن لا يقبل هذا الثناء فهو يعرف عن حب أبيه إياه ما لا يحتاج معه إلى هذا التبيان؛ بل لعل القول يغض من قيمة هذه العاطفة في نظر الابن. . . إنما أقصد إلى الرحمة الصادقة. . . أما ما كان في غابر العصور من قسوة فهو يخالف الطبيعة ويرهق الوالد والابن جميعاً.
- نسيت يا صديقي أننا نتكلم عن قصيدة من شاعر إلى أبنه.
أنساني طول المناقشة سبب النقاش فأرتج على حين جبهني مناقشي به، وكان بالمجلس شيخ وقور أخذ يستمع إلى الحوار في إنصات ولذة دون أن يتكلم، ولكنه لما سمع الإجابة الأخيرة ورأى حيرتي شارك الحديث:
- أمنكما والد؟
قلت - إنما نحن أبناء.
قال - إن كليكما قد أصاب في قوله. . . وكأني بكما وأنتما تتناقشان تمثلان الصراع الذي كان قائماً في صدر الوالد قبل أن تتغلب الرحمة، ولكن الأب الحق وسط بين قوليكما؛ فالرحمة الدائمة والقسوة الدائمة كلتا الخلتين فيها مضيعة لقوام الابن. . . فالوالد محتاج إلى كثير من الحزم يعرف به كيف يضع الأمور في أوضاعها الصحيحة، فلا يجعل الشدة في موضع اللين، ولا الرحمة في مواطن القسوة، ولكن نسى كلاكما إنه إنما يتحدث عن الشاعر، وهو وحده الذي يستثنيه المجتمع من كل هذه القيود. فإننا لا نحتمل شاباً يحدثنا عن مغامراته الغرامية، ولكن إذا كان شاعراً وصاغ لك مغامرته في قصيدة فإنك لا شك تطرب لها وتعجب بها. وإذا كنت محباً فإنك واجد في قصيدة الشاعر متنفساً عما يجيش بصدرك وتشفق من إخراجه نثراً حرصاً على كرامتك إذا كنت أخا كرامة، وكذلك الوالد الشاعر يقول قصيدته معبرة عن مشاعره نحو أبنه فيقرؤها القارئ ويعجب بها لأنها تعبير صادق عن شعور صادق، ويقرؤها الوالد غير الشاعر فيرتاح لها ويجد بين أبياتها المتنفس الذي أعياه البحث عنه ليفرج فيه عن أحاسيس طال عليها الكظم.
وهكذا الشعراء في كل أمة وفي كل عصر يحملون من قومهم ما لا يطيقه القوم، ويذيعون ما لا يذيعه غيرهم فتجري على أسنة أقلامهم إرسال العواطف. فهلا سمحتم بأن يقولوا ما دام في قولهم راحة لغير الشعراء!