مكانه إلا من احتزم، فجاشت نفسي وجرت الطائرة على الأرض فوقفت فسارت فاستقلت صاعدة، وفي النفس ملؤها هيبة وإعجاباً. ومر علينا الضابط مشيراً أن نحل الأحزمة، فعرفت أن هذا الحزم احتياط حين صعود الطائرة فحسب، فسرى عن نفسي.
وتأملت الطريق بعد حين، فإذا ببيداء متشابهة لا ترى العين من معالمها إلا قليلاً، وتوالت مناظر متقاربة، وأشباح متشاكلة. وكرت ساعات بين التفكر والنظر إلى الأرض وكتابة بعض الخاطرات، حتى اختلف المنظر قليلاً، ولاحت حفرة ضيقة ثم اتسعت، وبدأ عمران وأبنية، فظننت أنها قرية في الصحراء، وشرعت أفكر ما عسى أن تكون هذه القرية الصحراوية! فقطع علي الفكر قناة ماء طويلة متعرجة عرضها في رأى العين خطوة واحدة، فعجبت من هذه القناة أيضاً! ولم أملك أن سألت رفيقاً أمامي: ما تظن هذه؟ قال: أظنها الفرات، وما فكرت أنا في الفرات لتوهمي أنا منه جد بعيدين، وما قدرت أن الطائرة طوت ما بين النيل والفرات في أقل من أربع ساعات. فرحت بالفرات وأخذت أتأمل قراه وزروعه، وهجمت الطائر على ماء وسيع تختلف على المسير أشكاله ومناظره، فعرفت أنه البطائح التي تسمى في العراق اليوم (الأهوار)، وما قدرت من قبل أن هذه (الأهوار) تمتد هذه المسافات الشاسعة وتساير الطائرة قريباً من نصف ساعة.
شغلتني الأهوار بألوانها وأعشابها وقصبها، وما يبدو للعين خافتاً من جزرها ودورها، حتى حومت الطائرة هابطة، حتى استقرت على أرض البصرة، وكانت الساعة عشراً بحساب مصر وإحدى عشرة بتوقيت العراق. ليس بين القاهرة والبصرة في سرعة الطائرات إلا أربع ساعات! إنها لإحدى الكبر!
اطمأنت نفوسنا بالقرار على الأرض ساعة تغدينا فيها، ثم استأنفنا الطيران صوب كرتشى، والمسافة بينهما نحو ألف وأربعمائة ميل. وقد توجهت الطائرة إلى الجنوب الشرقي على طريقها المعتاد، وبعد برهة أطلعنا ضابط على الخريطة كدأب ضباط الطائرات مع مسافريها، وأخبرنا أنا نجتاز الآن الرأس البارز في الخليج الفارسي شرقي جزيرة العرب.
قلت: كيف وليس هذا طريقنا المخطوط على الخريطة؟ قال: الرياح غير ملائمة هناك، فعدلنا إلى هذا الطريق.
ورأيت صخوراً عاتية موحشة اجتزناها، فسايرنا الساحل حيناً، ثم عبرنا الخليج، فسايرنا