منذ الأزل إلا لنأوي إليها، هذه السفوح ما بسطت إلا لنطل عليها، والقمر ما طلع من وراء الأفق إلا لينظر إلينا، والنجوم ما أطلت من فرج السماء إلا لتناجينا، والفلك كله يدور من حولنا. نحن قطب الوجود، أناوأنت يا ليلى. لقد كنا متحابين من قبل أن نلتقي، وقبل أن نولد، وسنبقى متحابين بعد أن نموت، وهذا هو الحب.
الحب أن يعرف الحبيبة قبل أن تقع عليها عينه، ويسمع باسمها أذنه: يعرفها في سبحات التأمل في ليالي الوحدة، في ثوران الميل في أعصاب الشباب، في خفقات القلب للجمال، في تطلع الفكر للمجهول، في فراغ النفس، في صراخ الأعصاب، في كل فرحة، وفي كل ألم، وكل ذهول هذا هو الحبُّ الضالَّ الذي لا يعرف طريق الحبيب.
ليس الحب ضمَّة ولا شمَّة ولا قبلة، الحب أن يرى المحبوبة فيحس في نفسه جوعاً سماوياً إليها، رغبة جامحة في أن يفتح قلبه ويضعها فيه ويضمه عليها، الحب أن تفنى هي فيه، وأن يفنى هو فيها، أن لا يفرق بين الحبيبين الزمان ولا المكان ولا الميول ولا الأهواء، فيكون أبداً معها، هواه هواها، وميوله ميولها، ويكون في رأسه صداعها، وفي معدته جوعها، وفي قلبه مسراتها وأحزانها، وأن تكون له ويكون لها، وأن يدخلا معاً مصنع القدرة الإلهية مرة ثانية ويخرجا وقد صارا إنساناً واحداً، في جسمين اثنين. فأين تروى جرعات اللذائذ الحسية هذا الظمأ الروحي؟! إنها كالخل للعطشان، يشربه فيحرق أمعاءه، ويزيد ظمأه.
- فتقول له: يا ليتنا نموت الآن يا هاني، حسبنا هذا من العمر. أو يا ليت الزمان يقف فلا يدور أبداً، ولا نعود إلى القصر ولا نرى الناس.
- فيقول: ما الناس؟ وما القصر؟ كله باطل! كل ما عند الناس أوهام! الحق هنا، هذا وحده الحق، هذا هو الواقع، هنا الدنيا!
ويعجز النطق، وتضيق اللغة، فيتكلمان باللغة التي يفهمهما البشر كلهم، لأن لغة البشرية ليست لغة أمم ولا أقوام، اللغة التي ليس فيها إلا كلمة واحدة ولكن معانيها أوسع من كل ما حوت المعاجم، اللغة التي لا يفهم الرجل عن المرأة، ولا تفهم المرأة عن الرجل، إلا بها: لغة القبل!