للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بعض الناس: (يا نهار اسود. . . يا خرابي) ويحاول أن يبلع ما أبقى الصيام والقيظ في فمه من ريق فلا يجد شيئاً، ووقف المسكين بين يدي حضرة العمدة، فهل رأيت العصفور الهزيل بين يدي صقر جارح؟ وراح العمدة ينهره في صوت كالرعد أكبر ظني أن المسكين لم يسمعه من فرط رعبه. . يا كيت وكيت ويابن كيت وكيت. . من هاتيك الألفاظ التي تجري بها ألسنة العمد وأصحاب السلطان في القرى، وأمسك العمدة هذا المسكين بإحدى يديه وصفعه بالأخرى مرتين على وجهه المصفار في عنف وغلظة، فما تركه حتى سقط المسكين على الأرض يعفره التراب، فركله العمدة كما يفعل بكلب حقير!

ولم أدر سبباً لهذا الضرب، غير أني أحسست بالدم يصعد حاراً قوياً إلى وجهي، وطاف برأسي في مثل لمحة الطرف طائف مما نلوكه نحن المتعلمين من ألفاظ الحرية والديمقراطية والدستور ومجلس الأمن وأضرابها مما نخادع به أنفسنا، وهممت أن أنقض على هذا الصقر، وأبعثها حرباً بين الأسرتين والقريتين حتى ولو كان المضروب من أكبر المجرمين؛ وما كدت أسمع ممن حولي أنه من المساكين المسالمين، حتى انتفضت انتفاضة المحموم، وخطوت أوقد نار الحرب عليّ أطفئ بها نار غضبي!

ونهض المكين يبكي ويئن ويضع يديه على وجهه مكرراً قوله: (أمري إلى الله. . . أمري إلى الله) وكأنما عز هذا على أحد حاشية العمدة فنهره قائلاً: (اخرس يا حمار. . بوس يد العمدة وقل له ضربك شرف يا سعادة البك، وبذلك يصفح عنك)

وسبقني إلى حيث يقف العمدة وحاشيته شاب يلبس جلباباً أبيض، ويضع طربوشاً فوق رأسه، علمت أنه أخو المضروب، فالتفت إلى ذلك المتكلم الأخير قائلاً: (بل اخرس أنت يا سافل) ومرق مروق السهم إلى العمدة، فوقف يعترض طريقه في جرأة قائلاً: (لماذا تضرب أخي يا حضرة العمدة؟). . . وأخذت العمدة أول الأمر ربكة من هذه الجرأة التي لم ير مثلها قط في سنوات حكمه الثلاثين، ولكنه نظر إلى هذا المطربش في استهزاء كما ينظر المرء إلى مجنون لا يحاسب على قوله أو فعله؛ ولكن هذا المطربش أخذ يقول في عبارة فصيحة: (ما هذا الجبروت؟ إلام الظلم؟ الناس سواسية كأسنان المشط. . . نحن في عهد الدستور. . . قضية الحرية تعرض على مجلس الأمن. . . يا ناس كفى ظلماً واستعباداً لخلق الله. . . ففيم هذا الضرب وهذا الجبروت)!!

<<  <  ج:
ص:  >  >>