فهو ضئيل ولا يبدل ألوان حياتها القائمة بما هو أزهى بل جل ما يتوصل إليه هو أن يحولها أحياناً إلى لون الرماد!
وكما يعيش الموسرون في عزلة غافلين عن كل شيء خلا مالهم الموروث أو المكنوز ورفاههم المستقر، كذلك عاشت هي في عزلة تامة غافلة عن كل شيء خلا فقرها الموروث وضنكها المستقر
ثم دخلت حياتها حالة جديدة رافقها من الأوجاع والظواهر الجسدية ما أفزعها ولكنها ما لبثت أن اطمأنت إليها إثر ما تولتها به إحدى جاراتها من شرح وإرشاد ثم نسيتها تماماً حين انتقلت من دار أبيها إلى دار بعلها فغابت تلك الآلام الجسدية في نوع جديد من النشوة ما عتم أن احتل مكانه التقليدي بين معالم حياتها الرتيبة.
لم تكن دار أبيها داراً بالمعنى المعروف عند الناس بل كانت بقية من بناء متهدم في طرف القرية ليس له مالك على ما يظهر، أو إن كان له مالك، فلم يكن له به حاجة أو اهتمام. ولم يكن انتقالها إلى دار زوجها عرساً بالمعنى المألوف لأن أباها كان غريباً عن تلك القرية فلم يكن له فيها أهل أو عشير ولم تسمح لها حياة الكدح بأن يكون لها صواحب وأتراب، وكان زوجها كذلك غريب الدار. فلولا بعض الجيران وبعض رفقاء الزوج ولولا عدد من الناس لا يكاد يتجاوز أصابع اليد لما ارتدى ذلك الانتقال طابعه الخاص، ولولا محاولات قامت بها بعض جاراتها بدفع من قوة أجيال من التقاليد الموروثة لما أزهرت حياتها قليلا للمرة الأولى والأخيرة ولما اطرحت ألوانها الباهتة إطراحاً قصير الأمد
ولم تكن دار زوجها كذلك داراً بالمعنى المعروف بل كانت واحدة من تلك الأكواخ الضيقة الحقيرة يبتنيها العمال الزراعيون في أطراف المزارع ليكونوا على مقربة من الحقول التي يعملون فيها مأجورين، يبنونها بأيديهم من التراب المجبول بعرقهم فلا يكلفهم البناء مالا. وكما يعيش النمل في حفر يستقطعها من أرض الله كذلك يعيش هؤلاء العمال في تلك (الحفر) الطينية المسماة بقرى العمال يستقطعونها من أرض المالك، وكما يروح النمل ويغدو بصمت وإصرار حاملا إلى تلك الحفر المؤن التي تقيه عاديات الزمان كذلك يروح هؤلاء العمال ويغدون بين الحقل والكوخ صامتين صابرين ساعين إلى الحصول على قليل من الزاد يتبلغون به ولا يكاد بقى أجسامهم المكدودة عاديات الزمان، وكما يعمل النمل