وتوقفك على كثير من الانفعالات النفسية التي تكابدهاالفتاة إذا احترقت في سعير الغرام
والواقع أن المرأة لم تلج باب الغزل صريحة سافرة بل تلثمت بكل ما ملكته من براقع وخمور، فكان غزلها في الغالب تلميحاً يهديك إلى الطريق ويجعلك تسير فيه وحدك دون أن يرافقك في خطواتك، وقد تجد من يسلبها الوجد رشادها الناصح، فتنطق بما يجيش في صدرها واضحاً سافراً دون أن تتلثم بلثام واحد ولها من شعورها الدافق، وغرامها المتقد ما يبرر لها الغزل والتشبيب
وصاحبة التلميح أريبة ذكيه ترف من أين تؤكل الكتف فقد استغلت عنصر الحنين إلى الوطن أثمر استغلال، فاعتمدت عليه في التنفيث عن صدرها، والتعبير عن خوالجها، لما تعلمه من الصلة الوثيقة بينه وبين الغزل، وهي بذلك قد أخمدت الفتنة الثائرة، وأغمضت العيون المتنمرة، ثم - هي في الوقت نفسه - قد أفهمت حبيبها كل شيء. فأدرك من حنينها الذائب ما يتقد في أحشائها من شوق، وهذا في الواقع مطلب عزيز، تبذل العاشقة جهدها في تحصيله، فلم لا تصل ليه من اقرب طريق؟؟ ونحن نعلم عاشقات مدنفات قد اشتهر في الملأ شوقهن العارم، فما احتمله قريب أو صديق. بل عمد كل والد إلى فتاة فحملها إلى وطن غريب، وعقد قرانها في بلد نازح، وهنا ترسل النائية حنينها إلى مسارح الصبا وملاعب الشباب، وأنت حين تقراه لا تجده غير غزل مقنع قد أهدى إلى الحبيب الأول ففهم منه كل شئ، ولك أن تعتبر من هذا النوع قول القائلة:
ألا أيها الركباليمانون عرجوا ... علينا فقد أضحى هوانا يمانياً
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا ... وحب إلينا بطن نعمان واديا
فأن به ضلا ظليلا ومورداً ... به نقع القلب الذي كان صاديا
فهل صحيح أن الشاعرة تقصد ماء نعمان، وظله الظليل ومورده الرائق؟! لو كان ذلك وحدة ما أحسست بهذه الحسرة المتأججة، واللهفة المشتعلة، وما اهتدت الشاعرة إلى قولها الرائع (به نقع (القلب) الذي كان صاديا!)
ونظائر هذه الأبيات لا تندرج تحت حصر، وهي تدلنا على فطنة المرأة، وذكائها اللماح، وتؤكد لنا أن الحب كالزهرة الناظرة، لابد أن يعبق أريجها في كل مكان تحل به وهل كان الحنين غير عبير فاتن ينعش الأفئدة ويهيج النفوس؟!