وكان (هاني) ممن بقي في الأهواز من الجنود. وتاقت نفسه يوماً إلى الخلوة في ناحية من المدينة يتملى الذكريات ويحيا في الشام بفكره ساعة أو بعض ساعة يستجلي مغازل صباه، ومغاني هواه، وتربة آبائه وأجداده على الذكرى تفيض على قلبه سلاماً بهدهد حنينه ويفثأ لوعته.
وأطاعت (هاني) قدماه حتى انتهى إلى النهير الذي تقع عليه مدينة الأهواز والذي يصب في شط العرب. فرآه أبيض الصفحة صافياً تتهامس مويجاته ويميل النسيم بأغصان الشجر عليها فتخالها تسترق السمع.
ويسير (هاني) مع النهر في اتجاهه مأخوذاً بسحره، طروباً من الأغنية الرائعة التي تتألف من هسيس النهر، وهفهفة النسيم، ومغامسة الشجر.
وسار (هاني) بضع خطوات ثم وقف فجأة مبهوتاً أو كالمبهوت أي فتاة هذه التي راعته هذه الروعة؟
إنها فارسية صغيرة لم تتجاوز بعد عامها العشرين قد أخذت مكانها تحت شجرة فينانة على شاطئ النهر. وكانت بنت الفرس تتألق في ثوب أرجواني جميل قد أرخت غدائر نصف منحلة كليل امرئ القيس إذ كانت تتهدل على كتفيها تارة ويلقي بها النسيم على صدرها تارة أخرى في حركة تشبه موج البحر.
ورجعت الفتاة إلى قريتها (استانة أتار) ومعناها بالفارسية باب النهار وصاحبنا في إثرها لا يلوي على شيء وهناك عرف أن اسم فتاته (جلبان) ومعناها بلغة قومها (غصن الورد).
لكأنما وضع لها هذا الاسم الجميل بعد ما تفتحت من كمها فهذه القامة الفارعة أشبه شيء بالغصن الريان، وهذا الوجه المشرق الذي يتورد إلى كل من لاقاه هو في جمال الورد يجذب إليه الفراش من كل لون.
ولم يمض على زواج (هاني) من جلبان شهور حتى دعي إلى الانضمام إلى الجيش المحارب.
ولبى الفتى العربي داعي الوطن وداعي العصبية التي طالما فخرت على الفرس.
والتقى الجيشان عند نهر الزاب وكان قتال. . . قتال رهيب يحضأ في ناره الفرس الذين هزمهم العرب في القادسية واليرموك فأرادوه ثأراً يبرئ النفوس التي تتمزع من الغيظ،