للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الرجل ولده إلى صدره ومال عليه يقبله في ظمأ وشوق؛ وطأطأ الولد رأسه يعبث بأزرار معطف أبيه ويداعب سلسلته؛ وسبح أبوه في ذكريات ينشرها ويطويها:

لقد كان يحبها أعنف الحب وأرقه، ولم يكن يتمنى غير أن يظفر بها زوجاً يصفيها الحب ويخلص لها الوداد؛ وقد ظفر بها ونالها، فأين هو اليوم من سعادة الحياة؟! لقد أفلتها فلم يبق بين يديه من تلك المنى الساحرة غير لمحة ضئيلة يراها في عيني هذا الغلام.

وعاد إلى الماضي يسترجع ساعاته ولياليه، ويحصي على الزمن سيئاته وأياديه: لقد عرفها فتاة في إحدى الحدائق العامة مع أخيها الصغير فعطفه عليها دل متواضع وكبرياء تبتسم، وأحبها منذ ذلك اليوم وراح يعيش في وهم الأماني. . . واستطاع أن يلفتها إليه وأن يجعلها تهتم بأمره؛ ومدت إليه خيط الرجاء فتعلق، ومضت الأيام تقرب بينهما وتدني نفساً إلى نفس حتى أشعرتهما أنها كل شيء في حياته، وأنه كل شيء في حياتها. وشاركته سعادة الأمل، وأخذ يعد العدة للأمر العظيم يوم تكون زوجه، وأخذت تسابق الأيام فمنحته من ودها على غفلة الأهل أشياء في إباء الراغب ورغبة المتأبي؛ ولم تكن أيام الوصال على وتيرة؛ فيوماً دلال، ويوماً عتاب، ويوماً يتنبه الرقيب من حيث يريد وتريد. . . وهكذا راح الزمن يذكي في صدريهما لواعج الشوق، ويضرم لهيب الوجد - أربع سنين متوالية بين لهفة وشوق وأمل؛ ثم زفت إليه. لقد شعر يومئذ أن الدهر أتم عليه نعمته وأسبغ عارفته، ولكنه أعطاها مقادته من اليوم الأول، ولم يتلقها إلا بتقديس وعبادة، وظل بعدها في العبادة والتقديس!. وإنها لتحب السيطرة والسلطان، بعض ما في دمها من طباع الشركس؛ وإن فيه لطراوة وليناً من ضعف العاشق الذليل؛ فأخذت تملي عليه أرادتها وهو كالكرة في يد الصبي. ولم تجد فيه رجل أحلامها الذي قدرت أن يكون، فراحت تنتقص من سلطانه وهي تتمنى أن يعاصيها ويتمرد على إرادتها فتشعر به زوجاً له مثل سيطرة الرجال. وكانت كلما راحت تستثير فيه نخوة الرجل استخذى لها وتلاشت إرادته؛ لقد كان يجيد الغزل وحديث الحب، ولكنه لم يكن يعرف كيف يملي أرادته، ويلوح للحب بالبغض؛ وكان يعرف كيف ينزل عند رغبتها حين تريد، ولا يستطيع أن يكون رجلا حين يريد. . .

- ٢ -

ورأت كل حاجاتها لديه مقضية؛ ووجدت نفسها الآمرة الناهية في هذه المملكة الصغيرة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>