للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولقد حق لنا اليوم أن نهتف في يومك، بما كنتَ تهتفُ به في أمْسَك!

يا كريم الإخاء ويا سيد الأوفياء: إني لأشهدُ هذا الشعر كله على نفسي كما أشهدتَه، وأشهدُ بيانَك الذي أبدعته واخترعته، أن لوعتي عليك لمشبوبة، وإن فجيعتي في علمك وأدبك لا يذهبها كرُّ الغداة ولا مرُّ العشي! وأنى أصبت فيك، وأنك لِمدْرة العرب، وأنك لبهجة زالت. . .

ولقد خدعتْني نفسي، وأنا أصافحك في الليلة الموقوتة، فحسبتُني عائداً لك! غداً أو بعد غد! وإنما خدعتني قوةُ نفسك! ويقظة ذهنك، وأنك تركتَ الطب وراء ظهرك يعالج! وأقبلتَ علينا بوجهك تحاضر! فتقول:

(لقد ذكر القدامى أن الشعراء ثلاثة: المتنبي، وأبو تمام، والبحتري. ثم ذكروا الكتاب؛ فعينوا لنا اثنين: الجاحظ، وأبو حيَّان، فمن هو الثالث؟ ثم تسكت ونسكت!! فلمَّا لم تجدْ جواباً! جاهرتَ، وصحْتَ: (إنه (الزيات)، إنه (الزيات)، إنه أمير النثر والناثرين، وإنه لسيد البلغاء).

فهل حسبنا وأنت تحاضرنا، أنه لم يبق بيننا وبين أن ينطفئ هذا السراج الوهّاج، إلا سويعات! ألا لشدَّ ما تحطّمنا الأقدار، ويسخر منا ومن آمالنا الليل والنهار! لقد وعَظْتَنيِ حيا وميتاً! ألم تصحبني لمواساة (آل عبد الرزاق) عشيةَ فجيعتهم في (الشيخ الأكبر) فلما جلستَ إلى (عليَّ) إعتلج الهمُّ، وكان وجومٌ، فما راعنا إلاَّ صوتُك يقطع الصمتَ، ويعَّبر عن روعة المموت:

(خَرِسَتْ لعمرُ الله ألسنُنا ... لما تكلم فوقنا القدَرُ!!)

إن العربية اليوم لوْلهي، تتفرع من هول يومك، وإن مصر لحزينة على العالم الأكبر، والباحث الأكبر، الذي صات صوته في أرجائها: (ألا إن محمداً، وذكرى محمد، وقرآن محمد، ولغة محمد، وعربية محمد، وأدب محمد).

(كل ذلك لن يزول، كل ذلك لن يبيد وفي الدنيا مصر لقد عرفتْ مصرُ لك هذا الفضل وذلك الجميل، وإن جحده جاحد. فها هو ذا حوها يتلقى أنفاسك الطاهرة، وهاهو ذا ثراها يزكو بعظامك، ويستأثر برفاتك، حانياً عليها مزهواً بها! وها هي ذي سحائبها تروَّي أجداثك بكرة وعشيا، فلطالما روَّيت وأبهجت قلوباً، ثم نافحتَ وجاهدتَ وناضلت لتسود لغة

<<  <  ج:
ص:  >  >>