أوصال هذا الكيان القوي العميق المتراحب، بل سوف تتدفّق في نواحيه كلها إلى أن يستوي عوده على الهيئة التي تجعله كياناً صحيحاً في هذا الكون الذي يغلي من حوله بالثورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية.
ليس هذا فحسب، بل علينا منذ اليوم أن ننظر ماذا كانت تريد بريطانيا بعقد هذه المعاهدات؟ كانت تريد أن تجمع دول العرب على معاهدات يكون لها فيها الغنم وعلينا الغرم، أي أن بريطانيا كانت تريد أن تستعبد العرب جملةً واحدة وتسيرهم في أغراضها على نظام متفق لا تشذ عن دولة عربية واحدة، سواء أكانت مستقلة استقلالاً صحيحاً أم كانت مستقلة استقلالاً مشوباً بالعبودية للإمبراطورية البريطانية، ومعنى ذلك أيضاً أنها تعلم أن العرب سوف ينتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا أمة واحدة، فهي تريد أن تسبق الزمن وتجمع هذه الكتلة الواحدة في قبضة يديها حتى لا ينتشر عليها الأمر. وهذا غرض بين جداًّ، ودوافعه أشد وضوحاً واستبانه. فهل آن لنا أن نتنبه إلى الوضع الصحيح الذي ينبغي أن تكون عليه مطالب العرب فيما هم بسبيله من إحراز حقوقهم كلها جملة واحدة؟
لقد كتبت منذ سبعة أشهر كلمة في هذه المجلة بعنوان (شعب واحد، وقضية واحدة)، وذلك في العدد ٧٣٠ بتاريخ ٣٠ يونيه سنة ١٩٤٧ قلت فيها:(إن قضية العرب قضية واحدة بينة المعالم: هي أننا لا نريد إلا أن تكون بلادنا جميعاً مستقلة حرة، لا يحتل عراقها جنديٌّ واحدٌ، ولا تخضع جزيرتها لسلطان ملوك البترول، ولا ينال نيلها من منبعه إلى مصبه سلطان بريطاني أو غير بريطاني، ولا تقع شامها ولبنانها تحت سطوة غاصب، ولا يعيث في أرجاء مغربها فرنسي خبيث القول والفعل مجنون الإرادة) ثم قلت في آخرها: (وعن قريب سوف تقول حكومات العرب كلمتها، وسوف يجتمع رأينا على أننا لن نرضي بأن نجعل قضيتنا أجزاء يتلاعب بها هذا ويلهو بها ذاك. إنها واحدة، يرفعها شعب واحد، وطالباً بحق واحد، هو أننا أحرار في بلادنا).
وأنا لا أنقل هذا أعرض على الناس شيئاً مما كنت توقعت، بل لأقول إن السياسة البريطانية قد علمت علم هذا كله، فهي تريد أن تسبق الزمن لتضعنا في الإصر الشديد الذي يسمى بالمعاهدات، ولتستعبدنا في أغراضها، ولتنتقم منا ومن تاريخنا، ومن قديمنا وحديثنا. وأقول إن ساسة الشرق وساسة العرب لا يزالون يعيشون في غفلة الخيانات