النافذة شاخصاً ذاهلاً. . لقد أنساني هذا الجمال كل ما قد شهدت في الحقول من جمال، وأبعدت هذه الحقول شبح المدرسة عن فكري. وكأن فعلتي هذه لم ترق للآنسة المحترمة؛ فإنها لم تكد تراني أحدق في وجهها حتى اعتدلت بوقفتها وسوت شعرها بيدها ثم أغلقت النافذة وانصرفت.
أما أنا فقد لبثت في مكاني أفكر بحظي التاعس، وأقرن نفسي إلى تلك القطة السعيدة! إنها أسعد من على الأرض! ألا يكفيها أنها تستمتع بحريتها وتعيش إلى جانب الآنسة الفتانة!. . ألا يكفيها أنها لا تمسك نفسها ساعات طويلة على مقعد الدرس. ألا يكفيها أنها لا تشغل بالها بقوانين الجبر، ولا ترهق نفسها بحفظ قواعد الصرف والنحو! سعيدة أنت أيتها القطة.
وبينا أنا سابح في سماء الخيال؛ وقعت عيني على الساعة فإذا بها تشير إلى الثامنة والربع. . . يا للمصيبة!. . . أين المدرسة؟. بأي وجه أقابل الناظر؟. . . ومضيت أجر ساقي جراً، وكنت كلما سرت خطوتين تلفت لأرى النافذة ومن وراء النافذة. حتى إذا ما خفي المنزل عني عدوت نحو المدرسة ودخلتها متأخراً؛ فاستقبلني الناظر بطلعته الكالحة. وبعد السؤال والجواب سجل لي ما يناسبني من جزاء ثم سمح لي بالدخول إلى الصف.
ودخلت الصف فألفيت زملائي الطلاب ساكتين كأن على رؤوسهم الطير. لقد كان الوجوم يخيم في سماء الغرفة، وكان الصمت يستأثر بالأفواه. . . أين هذا الكلوح من تلك البشاشة! وأين هذا التزمت من ذلك المرح؟. . .
وأخذت وقعدي ورحت أفكر. ولقد كان لي في صمت الطلاب وهدوئهم ما يحملني على الانطلاق في سماء الخيال. . . لقد فتحت الكتاب لأتابع الأستاذ في قراءته، ولكن العيون الزرقاء كانت تطالعني من بين الأسطر. . . لقد كانت كل كلمى عيناً زرقاء، وكان كل سطر خصلة شقراء. لقد كنت في زاد والطلاب في واد. وانتهى الدرس الأول، وتبعه الثاني، وانصرم النهار وأنا لا أعلم كيف انصرم؛ ولكن الذي أذكره هو أنه كان طويلاً، وأني لم أفد به من العلم لا كثيراً ولا قليلاً.
ورجعت البيت في المساء كاسف البال محطم الأعصاب، ولم أقدر على المطالعة، فأغلقت الكتاب واضطجعت في الفراش. . . ولكن أنى للنوم أن يزور الأجفان التي تتطلع من وراء الخيال إلى صورة الحبيب المجهول.