الفقر، والفقر بعد الغنى، واليأس بعد الأمل، والأمل بعد اليأس، وما يعتريه من شدائد وكوارث، وما يبذله في صراع الحوادث، وما يلاقيه من رخاء ونعيم، وما يبعثه ذلك من هدوء واطمئنان - كل هذا وأمثاله له أثر في تكوين الشخصية يختلف ضعفاً وقوة؛ وأهم غرض للتربية الصحيحة في نظري أن تجعل ممن تربيهم شخصيات هي أقوى ما يمكن أن يكون الأشخاص من حيث استعدادهم وأهليتهم، فأنجح مرب هو الذي يستطيع أن يصل بطلبته إلى أقصى ما في استعدادهم من رقى، ويبلغ بشخصياتهم إلى آخر حدودها الممكنة - ولكن بجانب هذا التأثير العادي اليومي تحدث حوادث بارزة في تاريخ الإنسان وخاصة العظماء يكون لها الأثر البالغ والتغير الخطير - وهذه الحوادث يصعب ضبطها وتعليلها وحصرها - فقد تنقلب شخصيات الأفراد فجأة على أثر عقيدة دينية تملأ نفوسهم حماسة وقوة وعظمة كما رأينا في فعل الإسلام في رجاله أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، فلولا الإسلام ما كانت لهم هذه الشخصيات البارزة، ولكانت عظمتهم محدودة محصورة، ولو سبقوا زمنهم بسنين لماتوا كأمثالهم من عظماء الجاهلية، وقد يكون بروز الشخصية وظهور النبوغ في الإنسان على أثر مقابلته عظيماً، فيحس بعدها كأن عود ثقاب أشعل في نفسه فألهبها، وأضاء ما بين جوانبه وحفزه للعمل، وهون عليه الأخطار، بل قد تكون العظمة نتيجة لشيء أتفه من ذلك، فقد يقرأ جملة في كتاب، أو يسمع عبارة من خطيب، فكأنها كانت مفتاح عظمته، وكاشف حيرته، بل قد تكون العظمة لم تأت من شيء خارجي بل أتت من تفكير الشخص في نفسه وتحليلها وتبين موقفها في العالم، وموقف العالم منها، وتساؤله لها ما رسالتها في العالم وكيف تؤديها - فإذا هو يشعر بعد طول التفكير كأن قبساً من نور إلهي ألهب نفسه، وأضاء العالم أمامه، فهو يسير على هدى، ويؤدي رسالته كما بُلّغ، إلى كثير من أمثال هذا مما لا يستطاع حصره.
ويظهر أن النفوس إذا نضجت تلمست الوسائل المختلفة لبروزها، وظهور عظمتها، والصوفية يقولون:(صاحب الخصوصية لا بد أن يظهر يوماً ما) ولكن كم في العالم من شخصيات كامنة لو هيئ لها عود الثقاب لاشتعلت، ولو أتيح لها القبس لأنارت، وكم من بذرة صالحة قوية لم تجد تربتها اللائقة بها، فغلبتها على الحياة بذرة فاسدة، وكم من زهرة بدأت تتفتح فأصابتها ريح هوجاء عصفت بها - وعمل المصلحين والشخصيات القوية في