للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الإنسان الذي خلق للدنيا لا لنفسه، فهو لا ينمو بما يكون له على الناس من الحق، ولكن بما يكون للناس عليه من الواجبات، كأنما هو حقيقة كونية تعيش عيشها، فما تكون في الوجود إلا لتقرر وجودها هي، ولا تنتهي حين تنتهي بذاتها إلا لتبدأ معانيها في غيرها، فهو صلى الله عليه وسلم إنسان غُرِسَ في التاريخ غرساً ليكون حداً لزمن وأولاً لزمن بعده، وما كانت حياته تلك إلا طريقة غرسه، وهو أبداً قائم في مكانه الاجتماعي، إذ كان الزمن كلما تقدم زاد في إثباته. وقد أصبح في الدنيا كأنه جهة من الجهات لا إنسان من الناس، فلن يتغير أو يمحى إلا إذا تغير أو مُحي المشرق والمغرب.

ونحن حين نقرأ تلك الصفات وما فاضت به كتب الشمائل من أمثالها - لا نقرؤها أوصافاً ولا حلية، بل نراها صفحة إلهية مصنفة أبدع تصنيف وأدقه، ومن وراء تأليفها تفسير طويل لا يتهدّى الفكر البشري لأحسن منه ولا أصح ولا أكمل، فقد اجتمعت تلك الصفات في إنسانها اجتماع الأجزاء في المسألة الرياضية لا ينبغي أن تزيد أو تنقص، إذ كان في مجموعها ما وجد له مجموعها.

ويكاد الارتباط بين أجزاء هذه المسألة يكون هو بعينه صورة للارتباط بين أجزاء تلك الصفات الشريفة، فان كل جزء منها موضوع وضعاً لا يتم الكل إلا به، حتى لا موضع فيها لقلةٍ أو كثرة، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) وأنت إذا دققت في هذا الحديث أدركت من معناته أن هناك طبيعة أخلاقية مفردة تجري على قانونها الذي وضعه الله لها وأحكمها به.

وأعجب ما يدهشنا من مجموع صفاته صلى الله عليه وسلم - أن فيها دليلاً بيناً على أنه مخلوق خلقة متميزة بنفسها كخلقة القلب الإنساني، نظامه حياته وحياته نظامه، وكأنما اعترته حالة نفسية كالتي تعتري القلب في استشعار الخطر فتخرجه من طبيعته إلى أقوى منها، فلا يزال يمد أعضاء الجسم بمدد لا ينفد - من القوة والصبر يجعل الحياة فيها على أضعافها كأنها حياة كانت مخبوءة وظهرت بغتة؛ وفي هذه الحالة تتجه غرائز النفس كلها إلى جهة واحدة كأنها مقدرة بميزان، مضبوطة بقياس؛ فترجع على تناقضها واختلافها متعاونة يؤازر بعضها بعضاً، وكان قانونها الطبيعي أن تتجاذب وتتساقط وتفسر الواحدة منها عمل الأخرى، فيجيء بها الشيء وضده معاً: كالصدق والكذب، والطمع والقناعة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>