كلاهما سهل ميسور في الأعمال، ولكنهما مستحيلان في النية إذا خلصت.
وهي كذلك ضابط للفضائل توجه القلوب على اختلافها وتفاوتها اتجاهاً واحداً لا يختلف، فيكون طريق ما بين الإنسان والانسان، من ناحية الطريق ما بين الإنسان وبين الله.
وأشواق الروح بطبيعتها لا تنتهي، فيعارضها الجسم بجعل حاجاته غير منتهية، يحاول أن يطمس بهذه على تلك، وأن يغلّب الحيوانية على الروحانية، فإذا كانت النية مستيقظة كفّتْه وأماتت أكثر نزعاته، ووضعت لكل حاجة حداً ونهاية؛ وبذلك ترجع النية إلى أن تكون قوة في النفس يخرج بها الإنسان عن كثير مما يحدُّه من جسمه، ليخرج بذلك عن كثير مما يحده من معاني الأرض.
وهي بعد هذا كله تحمل الإنسان أن ينظر إلى واجبه كأنه رقيب حي في قلبه، لا يرائيه ولا يجامله، ولا يخدع من تأويل، ولا يُغر بفلسفة ولا تزيين، ولا يُسكته ما تسول النفس، ولا يزال دائماً يقول للإنسان في قلبه: إن الخطأ أكبر الخطأ أن تنظّم الحياة من حولك الفوضى في قلبك.
وجملة القول في معاني النية أنها قوة تجعل باطن الجسم متساوقاً مع ظاهره، فتتعاون الغرائز المختلفة في النفس تعاوناً سهلاً طبيعياً مطرداً، كما تتعاون أعضاء الجسم على اختلافها في اطراد وسهولة وطبيعة.
وكل صفات النبي صلى الله عليه وسلم - مما ذكرناه وما لم نذكره - متى اعتبرت بذلك الأصل الذي بيّناه انتظمها جميعاً، فجاء بعضها تماماً على بعض في نسق رياضي عجيب، وظهرت حكمة كل منها واضحة مكشوفة، ورأيتها في مجموعها تصف لك عمراً هندسياً دقيقاً قد بلغ الغاية من الكمال والروعة والدقة، لا يُعَدُّ جزءٌ منه جزءاً، بل كله أجزاؤه، وأجزاؤه كله؛ كالوضع الهندسي؛ إما أن يكون بكله، وإما ألا تكون فيه الهندسة كلها.
وليس مجموع تلك الصفات في معناه إلا صنعة الإنسان صنعة جديدة تخرجه موجوداً من ذات نفسه، وتكسر القالب الأرضي الذي صب فيه وتفرغه في مثل قالب الكون، فإذا هو غير هذا الإنسان الضيق المنحصر في جسمه ودواعي جسمه، فلا تخضعه المادة، ولا يؤتى من سوء نظره لنفسه، ولا تغرّه الدنيا، ولا يمسكه الزمان؛ إذ كانت هذه هي صفات المستعبَدِ بأهوائه لا الحر فيها، والخاضع بنفسه لا المستقل بها، والمقبور في إنسانيته لا