للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهوان أمره، والاهتمام أبداً بما وراءه لا به.

فأول النفس النية العاملة لآخرتها، وآخر النفس ما تؤدى إليه أعمال هذه النية؛ فليس في إنسان الدنيا إلا إنسان العالم الآخر؛ وبهذا يقدّر صمته وكلامه، وحركته وسكونه، وما يأتي وما يدع، وما يحب وما يكره؛ إذ كل شيء منه على الاعتبار إنما هو صورة الحقيقة العاملة فيه.

وجماع الأمر ألا يكون مستقبل الإنسان علامة استهزاء بجانب ماضيه، ولا علامة استفهام، ولا علامة إنكار.

وتدل صفات النبي صلى الله عليه وسلم باجتماعها وتساوقها على حقيقة عظمى لم يتنبه إليها أحد؛ وهي أن جميع خصائصه النفسية مرهفة متيقظة، وهذا مما يندر وقوعه وإمكانه؛ فان الرجل من الناس ليكون حياً بالحياة، ولكن جوانب كثيرة من نفسه قد طاح بها الموت، أو هي مريضة، وذلك أول الموت؛ أو غافلة، وذلك شبه الموت. أما الحيّ العظيم فهو الذي يحيا بأكثر خصائص نفسه، وأما الحي الأعظم فهو الذي يحيا بجميع خصائصها، تملؤه الحياة فيملأ الحياة، ويتمدد السر فيه ليريه حقائق الأشياء، ويهديه ويدلّه، فيكون بنفسه رؤية للناس وهداية ودلالة؛ ومثل هذا يعظم ثم يعظم حتى ليرى الفرق بينه وبين غيره كالفرق بين نور لبس اللحم والدم، وبين تراب لبس الدم واللحم.

وذلك لا يكاد يتفق إلا في مراتب أعلاها الامتياز في النبوة، ثم النبوة؛ ثم تنزل إلى الامتياز في الحكمة، ثم تهبط إلى عبقرية الشعر. فأكبر الشعراء قاطبة كالنبي في معناه إلا أنه نبي صغير، وإلا أنه في حدود قلبه.

وهذه القوى الثلاث هي التي أبدعتها الحكمة الإلهية لتحويل الحياة والسموّ بها؛ فالشاعر يستوحي الجمال إذا تألّه الجمال في قلبه، والحكيم يستوحي الحقيقة إذا تألّهت في نفسه، والنبي يستوحي الألوهية نفسها.

(كان صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان) ولكنها أحزان النبوّة تكسو الحياة فرح النفس الكبيرة، وهو فرح كله حزن وتأمل، وفكرة وخشوع، وطهر وفضيلة. وما فرح أعظم الشعراء بطرب الوجود وجمال الموجودات إلا شيء قليل من حزن النبي.

(وكان دائم الفكرة ليست له راحة) إذ هو مكلّف أن يصنع الإنسان الجديد وينقح الآدمية

<<  <  ج:
ص:  >  >>