لم يخامر قلبي يأس قط من هذه الفترة التي نعيش فيها من زمننا، ولم يداخلني الشك في حقيقة هذه الشعوب، وإن كانت لا تزال تعيش في بلبلة جياشة بأخلاط من الغرور والخداع والعبث، وفي أكفان من الفقر والجهل والمخافة، وفي كهوف من الظلم والاستبداد وقلة الرحمة. كل ذلك شئ أراه وأعرفه، ولكني أستشف تحت ذلك كله نقاء وطهراً وقوة تدب في أوصال هذا العالم الذي أوجه إليه كلامي، وهو خليق أن يتجمع للوثبة في الساعة التي كتب له فيها أن يهب مرة واحدة تذهل الناس كما أذهلتهم من قبل، وهو خليق أن يكون سر الحياة الجديدة التي تضرب عروقها إلى عصور بعيدة في تاريخ البشر. ولعل هذه المحن التي أحاطت به من خارج، والتي استبطنته من داخل، هي حوافز البعث الجديد، وهي نار التمحيص التي تنفي خبثه كما ينفي الكير خَبَث الحديد.
أنا أعلم أن رجال السياسة عندنا لا يزالون أوزاعاً من خلق الله لا ندري كيف نشأوا، وعلى أي شئ قامت شهرتهم، ولا إلى أين تمضي أهدافهم، وهم فوق ذلك كله قد لوّثوا ضمائرهم وعقولهم وأخلاقهم وعزائمهم بأشياء لا يمكن أن تؤدي إلى خير، وهم قد أشربوا فتنة بأخلاق الساسة الطغاة الذين ابتلي بهم الغرب وامتحنت بهم الحضارة الغربية. ولست أشك ساعة في أنهم فئة لا خير فيها البتة، مهما دل ظاهر تدليسهم أو تدليس الصحافة بأسمائهم على أنهم يفعلون خيراً أو أنهم سوف ينتهون إلى خير. ولست أرتاب البتة في أن الخير كل الخير هو في زوالهم جملة واحدة من مكانهم، لكي يتسنى لهذه الشعوب العربية والإسلامية أن تهتدي إلى الحق في حياتها وفي جهادها وفي أهدافها.
وأنا أعلم أن رجال العلم من أي أقسامه كانوا، لا يزالون يتعبّدون أنفسهم لكثير مما لا نفع فيه لأممهم، بل لعلهم لا يزالون يترفعون عن هذه الشعوب الفقيرة الجاهلة، والتي هي شعوبهم، ظناً منهم أنها شعوب لا تستطيع أن تبلغ ما بلغ أن الناس في العلم، فضلاً عن أن يدركوا سوابق العلماء في هذه الفترة من زماننا، فضلاً عن يسبقوا أمم الحضارة الحاضرة في ميدان هذه العلوم. وهم في خلال ذلك - إلا من عصم الله - يبسطون ألسنتهم بسطاً شديداً في أعراض هذه الشعوب، فيقرفونها بكل مسبة، ثم يصرفون وجوههم إلى أوربة وأمريكا وغيرها كأنما هم منها ومن صميمها، لا من هذه الشعوب البائسة التي ظنوا أن الموت كتاب محتوم عليها.