جعله على نسق القصة، فروى لنا حوادث تلك الفترة من حياته منذ غادر أرض مصر، إلى أن قضى الله بأن يؤوب المغترب إلى أحضان أمه سالماً، وسرد في غضون ذلك ما قاسى من آلام وغصص، ونوه بما صادفه من عقبات وما عاناه من أوصاب، ولم ينس أن يفضي إلى القارئ ببعض غرامياته وصداقاته التي هونت عليه أهوال الغربة وغصص الحرمان والفاقة!
وفي الكتاب تصوير صادق لحنينه إلى الوطن. فقد حدث وهو في محنته ببرلين، أن قدم رهط من المصريين لشهود مهرجانات الألعاب الأولمبية التي أقيمت بالعاصمة الألمانية عام ١٩٣٦، وتصادف أن جلس ذات مساء في مقهى بها، إلى مائدة مجاورة لمائدة جماعة من أولئك المواطنين الزائرين الذين انطلقوا ينتقصون وطنهم في غير رحمة، ويبدون إعجابهم بعظمة الحضارة الألمانية، ويعربون عن أملهم في الإقامة ببرلين، ينهلون من مفاتنها، ويقبسون من سني حضارتها ولألائها؛ فانبرى لهم يسفه آراءهم وينصح لهم بالإبقاء على حب أمهم الرءوم مصر، والعودة إلى أحضانها حيث يعملون على الرقي بها إلى حيث العلا والفلاح. واشتبك معهم في حوار رائع حقاً، تجلى فيه حنين المغترب المحروم إلى وطنه النائي العزيز. ولولا معرفة صاحب هذا القلم بالأستاذ العرابي. وإدراكه مبلغ ما تنطوي عليه نفسه الشاعرة الحساسة من هوى مضطرم لا حد له بمصر وكل ما يتصل بمصر، لخال ذلك ضرباً من الإيغال في الخيال، أو نوعاً من المبالغات التي يعمد إليها الكتاب في معظم الأحيان توسلاً بها إلى ترويج بضاعتهم المزجاة!
والجزء الثالث من هذه الذكريات قد وقفه الكاتب على نشاطه في سبيل العروبة والعرب، وهو في منفاه؛ ففيه سرد مسهب مفصل لنشاطه حينما تولى رياسة النادي العربي في برلين، ذلك النادي الذي بذل المؤلف من وقته ونشاطه ما عاد عليه بالنجح والتوفيق في أداء رسالته الثقافية والرياضية، أما عن النشاط السياسي لذلك النادي، فيكفي الإلماع إلى مظاهرته قضية فلسطين وتأييده الصادق لها في فترة الاضطرابات التي عمت البلاد المقدسة قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.
هذا والأستاذ المؤلف لا يعرف التأنق في العبارة، ولا يعشق المبالغة في إظهار عواطفه، وأسلوبه خير شاهد على ذلك الصدق الفني المنقطع النظير.