ورواحه، ولهذا كان الشاعر يشكو من دهره، ويعجب من حرمانه، أضف إلى ذلك ما وقر في نفسه من إنه سليل البرامكة ذوي الأموال المصادرة، والتراث السليب، وهو بعد ذلك فقير معدم تسأله عن حاله فيجيب.
لست الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم
أنا الذي دينه إسعاف نائله ... والفقر يعرفه والبؤس والعدم
أنا الذي حب أهل البيت أفقره ... فالعدل مستعبر والجوْر مبتسم
وكأن السياسة قد حرمت عليه أن يتمدح بآبائه وأهله فكان يعاني من ذلك هما ناصباً وشجناً مبرحاً، وقد ينفجر صبره فيسفر عن مراده في وضوح، ويروح عن نفسه فيقول:
أنا أبن أناس موّل الناس جودهم ... فلم يخل من إحسانهم بطن دفتر
ولقد كان الغناء يدر عليه بعض الخير والنعمة ولكنه مسرف متلاف لا يبقي على شيء فهو في حاجة ماسة إلى العطاء المتواصل، والغريب أنه ابتلى بمن يغنيه فيكتب إليه رقاعاً عديدة دون أن يأذن بصرف واحدة منها وقد يكون جحظة في ضيق من عيشه فيعلن إليه تبرمه إذ يقول:
إذا كانت صلاتكمو رقاعاً ... تُخطّط بالأنامل والأكف
ولم تكن الرقاع تجر نفعاً ... فها خطي خذوه بألف ألف
وشر من ذلك أن يغني جماعة فيقولون له أحسنت ثم لا يعطونه قليلاً أو كثيراً وهو ينتظر أن يحظى ببعض ما يتمتع به زملاؤه المغنون من منح وهبات فلا يسعه إلا أن يعبر عن هذه الحقيقة المريرة فيهتف.
لي صديق مغرى بقربي وشدوي ... وله عند ذاك وجه صفيق
قوله إن شدوت أحسنت زدني ... وبأحسنت لا يباع الدقيق
ولقد دفعه ضيق يده إلى التهافت على موائد الخلان والأصدقاء فكان لا يترك صاحباً إلا فجعه في مأكله ومشربه، فإذا صادف منه بشراً وابتساماً سكت عنه، وإذا لمح في وجهه عبوساً سلقه بهجائه المقذع، وأخذ يشهر به في كل مكان، راوياً عن بخله ما يمتع من النوادر المضحكة كأن يقول (سلمت على بعض لرؤساء وكان مبخلاً فلما أردت الانصراف قال لي يا أبا الحسن ماذا تقول في أكل القطائف؟ فقلت ما آبي ذلك، فأحضر لي جاماً فيه