وأوديب قد تزوج من (يوكاست)، فلم يبق إذن بين البطل وبين الشقاء إلا أن يعلم أنه زانٍ بأمه قاتل لأبيه، فرويداً تنكشف الحجب وتنجل الحوادث، ويستيقن أوديب أنه نفذ إرادة الآلهة فيعاقب نفسه. تلك هي رائعة الأدب الإغريقي وكل ما فيها انكشف عن جريمتين وقعتا قبل عملها، فكان ذلك الكشف الرهيب الأليم كافياً لشغل المسرح وملئه. فكيف استطاع الإغريق إذن أن يشغلوا خمسة فصول بحادث محتوم لا حيلة للأشخاص فيه ولا منجى لهم منه؟ كانوا يمثلون على التتابع مآسي كثيرة في يوم واحد، وكان الخورس يقتل جزءاً من الزمن، وما بقي من الفراغ كانوا يملأونه بالشكاوي والوعظ والوصف والإنشاد والمجادلات في الفلسفة والسياسة.
تلك حال التعقيد الروائي في الفن الإغريقي، وهو كما ترى ضئيل الخطر قليل الأثر، لا يقوى الجاذبية ولا يزيد التشويق، وإنما كان سبيلهم إلى ذلك هو التعرف وحده، وكان شعراؤهم يؤثرونه ويرونه أنجع الوسائل لإيقاظ المسرح وإحياء الرواية. ولولاه لما كان لمعظم روائعهم الفنية شأن يذكر كأوديب وإيفجيني وفيلوكتيت.
أما التعقيد في الفن الحديث فهو جسم الرواية وروح العمل، وكان سبب ما أحله تلك المكانة هو امتداد نواحيه، وتشعب أطرافه، وحرية وجهه، فقد تخلص من ربقة القضاء والقدر والكهانة، وأصبح مظهراً للعواطف المؤثرة المنتجة، وصدى لأصوات الحياة الصاخبة المزعجة، وصورة للبيئة الحاضرة المعقدة؛ وصارت جاذبية المسرح معقودة بما يحدثه اصطدام الأهواء واضطرام النفوس وتباين الأخلاق وتعارض الأطماع من خير أو شر، وأخذ الحب والبغض والانتقام والطمع والغيرة تحل من حياة الإنسان محل الأقدار والحظوظ، وتعقد العمل بتفاوت الشعور وتنازع النفس واختلاف الهوى وثورة العاطفة فبعث في المسرح الحديث حركة شديدة وروحاً قوية كان القدماء يجهلونها كل الجهل، لأن مسرحهم كان يقوم على حكم الضرورة، ومسرحنا يقوم الآن على نظام الطبيعة، والضرورة عامل قاهر، ومتسلط مستبد، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. أما الطبيعة فلها مبادئ وقوانين تُصدر عنها وتسير عليها، فكل حادث لعلة، وكل غاية لأصل، حتى في اضطراب الأهواء وفوضى الميول تجد نظاماً خفياً لا تستطيع أن تقلبه دون أن تصرخ الطبيعة في نفسك بأنك خرقت قانونها وانتهكت حماها، لذلك كان بناء المأساة الحديثة من أدق الأمور