للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تيار الفساد أقوى من أن تحده مثل هذه القيود. وربما كان ذلك حقاً في ذاته؛ فالتشريع وحده لا يكفي لقمع الفساد وتقويم الأخلاق، بل يجب أن تتضافر معه جميع القوى والعناصر التهذيبية الأخرى، في البيت والأسرة والمدرسة والمجتمع، ولكن التشريع لابد منه في بلد تسيطر الحكومة فيه على كل شيء: على التعليم والتربية، وتكوين التفكير والأخلاق؛ وتنظيم المجتمع، والتشريع أول وأهم خطوة في بلد لم يستكمل نضجه في التهذيب والثقافة، وفي بلد تغزوه أسفل عناصر المدنية الغربية؛ وفي مجتمع لا يفهم التمدن إلا بأنه اقتباس للخلال والأزياء الغربية الخليعة، والانحدار إلى مهاوي التهتك، وإهدار قواعد الحياء والحشمة، والانغماس في شر ما تنغمس فيه العناصر الأجنبية الوضيعة.

وحيثما يسري الفساد إلى مجتمع ضاع فيه وازع التربية والحياء والأخلاق، وجب أن يمثل وازع التشريع والإكراه، ونريد هنا التشريع الحكيم النزيه المبني على دراسة عميقة وتمحيص مستنير. نعم إن التشريع لا يحدث أثره سراعاً، ولكنه يذلل الطريق دائماً للغاية المثلى، وفي جميع الأمم الغربية يتخذ التشريع وسيلة لحماية الأخلاق وتقويمها؛ ففي إنكلترا قوانين لحماية الأحداث من خطر ارتياد المقاهي والملاهي منفردين ولحماية أخلاقهم في المصنع؛ وقد لجأت الفاشية في إيطاليا إلى التشريع لمعالجة الفساد الأخلاقي الذي بثته فوضى ما بعد الحرب إلى كل طبقات المجتمع، فأصدرت قوانين عديدة لمحاربة الخلاعة والتهتك ومطاردة الملاهي المبتذلة، وتناول التشريع أزياء المرأة فحتم أن تكون ذات طول معين؛ ورُدت المرأة الإيطالية بقوة التشريع إلى الأسرة والمنزل، وحملت على تقديس الزواج والأمومة، واحتقار الإمعان في التبرج واللهو الخليع؛ وحذت الوطنية الاشتراكية في ألمانيا حذو الفاشية في ذلك، فلجأت إلى التشريع في مطاردة الفساد الأخلاقي والملاهي المبتذلة، وأُغلقت مئات الحانات والمنتديات المريبة في برلين وغيرها، ورُدت المرأة الألمانية إلى حظيرة الأسرة، وبوعد بينها وبين العمل الخارجي جهد الاستطاعة، إلى غير ذلك من الوسائل والإجراءات التي أريد منها صون الأخلاق بعد ما وصلت إلى أبعد حدود الانحلال، ورفع مستوى الحياء والحشمة بعد أن هبط إلى الدرك الأسفل.

وفي تركيا الكمالية، كان التشريع وسيلة التحرير والتمدن، فلما طغى سيل الفساد الأخلاقي في مجتمع لم ينضج بعد لمثل هذا الإغراق والتطرف، عادت حكومة أنقرة فلجأت إلى

<<  <  ج:
ص:  >  >>