وفي تلك الدار من ذلك الحي كان هواه. . . يذهب إليها مع الصبح، وحين يقبل الليل، وكلما هزه الشوق وطال الحنين؛ ولن ينسى كيف كانت تستقبله الدار يوم كان يقصد إليها: ملء يديه زهر، وملء عينيه أمل، وملء قلبه حب، وملء نفسه دنيا من الأحلام. . . أبداً لن ينسى الوجه الذي كان يتلقاه باليدين حين يقبل، وبالروح حين يجلس، وبالدعاء حين ينصرف مودعاً إلى لقاء قريب. . .
ولن ينسى أنها كانت تهوى الأدب، وتعشق الفن، ويملك عليها المشاعر كل معنى جميل. . . ولن ينسى أن صلته بها كانت عن هذا الطريق الذي جمع بين قلبها وقلبه، وبين طبعها وطبعه، وبين شعورها وشعوره. . . ومن أجل هذا كله كان يدفع إليها بكل كتاب يقرؤه، وكل مقال يكتبه، وكل أثر من آثار الفن يعلم أنه يلقى من نفسها هوى ورعاية!.
لقد كانت تعجب به حين يتحدث، وحين يقرأ، وحين يكتب. . . أما هو، فيشهد أنه لم يكن يكتب إلا لها، لها وحدها! لم يكن يهمه أن يرضى عنه الناس ما دامت هي راضية، ولم يكن يحفل بأن يتحدث عنه الناس ما دامت هي تتحدث عنه. . . ولقد بلغ به الغرور وهو في غمرة إعجابها به حداً جعله يعتقد أن ليس هناك من يكتب خيراً منه، ولا من يفهم خيراً منه، ولا من يتذوق آثار الأدب والفن خيراً منه!!. . وكان حين يسألها عن أي المجلات الأدبية تحب، وحين يتلقى جوابها مشفوعاً بأسباب التفضيل والإيثار يبعث إلى هذه المجلة بمقال، وإلى تلك بغيره. لقد كان يود دائماً أن يرى نفسه إلى جانبها، حتى إذا عاتبته يوماً على غيابه الذي طال اعتذر لها بأنه كان معها بالفكر والروح، وحسبها وحسبه أن يلقاها وتلقاه. . . بين السطور والكلمات! وتشهد دار الرسالة كلما ظهر له في الرسالة مقال، أنه كان يقصد إليها في يوم السبت ليحمل إليها العدد قبل صدوره لتكون هي أول م يقرأ مقاله وأول من ينقده. . . لقد كانت تحرص دائماً على أن تكون أسبق الناس إلى لقائه؛ تلك التي كان يرجو أن تصبح يوما شريكة حياته. . . وكم بنى من قصور الأوهام ما شاءت له فنونه وشجونه! كم أقام على دعائم الخيال عشهما المنتظر؛ عشهما الجميل الهادئ، ذلك الذي يملؤه الأطفال أنساً ومرحاً وبهجة، تملؤه هي حباً وحناناً ورحمة!!.
يا دنيا الأدب والفن، يا دنيا الجمال والنبل، يا دنيا الجلال والطهر، أنت التي دفعته بيديك إلى الأمام فأنسيته كل معنى من معاني الوراء، وأنت التي بعثت الحياة في وجدانه فأنسيته