الأصدقاء بخدمة الكونت دي جوفون أحد رجال البطانة، وتعرف عندئذ بالأب دي جوفون أحد أعضاء هذه الأسرة، وتلقى عليه دروساً في اللاتينية والأدب القديم، ولبث في عمله الجديد أشهراً أخرى، ثم أقيل منه فخرج خالي الوفاض مهموم النفس وكره البقاء في تورينو، وأعتزم العودة إلى أنسي وإلى مدام دي فرنس.
فغادر تورينو على قدميه، ووصل إلى أنسي بعد رحلة شاقة، وقصد إلى منزل المحسنة إليه؛ وآنس في الحال منها ذلك العطف القديم، فارتمى على قدميها وهو يلثم يدها فرحاً، وفاض قلبه سعادة إذ علم أنها أعدت له غرفة بالمنزل وأنه سيقيم إلى جانبها باستمرار. وهنا يفيض روسو في وصف عواطفه نحو هذه السيدة البارة الساحرة، فيقول إن علائقهما لم تثر منذ الساعة الأولى أية كلفة، فكانت تسمية (ولدها الصغير) ويسميها (أمه) وأن هذه التسمية كانت أصدق معبر عن بساطة هذه العلائق وسذاجتها، وبالأخص عن تجاذب قلبيهما، وأن الشهوة الجنسية كانت بعيدة عن ذهنه، ولكنه كان سعيداً إذ وجد (أماً) فتية حسناء تغمره مداعباتها وقبلاتها - أجل قبلاتها - سحراً، وإنه كان يشعر إلى جانبها ولدى نظراتها وأحاديثها بمتعة خالدة لا يستطيع أن يدرك كنهها، يقول روسو:(كان يأخذني سحر المقام معها، ورغبتي المضطرمة في أن أقضي حياتي إلى جانبها، فكنت أرى فيها دائماً، أكانت غائبة أم حاضرة، أماً رؤوماً، وأختاً محبوبة، وصديقاً ممتعاً، ليس غير؛ وكانت صورتها التي لا تفارق قلبي قط لا تفسح مجالاً لأية صورة أخرى، فلم أك أرى في العالم امرأة سواها، وكانت عذوبة المشاعر التي تبثها إلي تمنع حواسي من أن تنتبه إلى مشاعر أخرى، وتحميني منها ومن جنسها كله، وبعبارة أخرى كنت عفيفاً لأني أحببتها، فتأمل هذه النتائج التي لا أكاد أحسن عرضها، وقل لي من ذا الذي يستطيع أن يصف طبيعة شغفي بها. . .)